18 ديسمبر، 2024 8:00 م

يصر القلم على الورق دون معنى فقط تظهر نقاط يتلو بعضها الاخر تثقل الورقة بالمداد الذي اخترته ان يكون ازرق …
لماذا ازرق…؟
لأني احب لون السماء الصافية وزرقتها خاصة حين تكون بعض قطع الغيوم سابحة كأنها اشرعة تسير الهوينا ,وحتى حين تسرع اراها كأنها مراكب تحمل الاحبة عائدة الى الوطن .
أحب زرقة المياه حين تعكس لون السماء وارى في الكائنات الحية التي تسبح في البحار ارواحا طيبة مهما كانت تحمل من غرائز الفتك والقتل لأنها بهذا السلوك تبني حياتها .
اراك تعترض عبارتي
بل انا ارفضها
اراك غاضبا
بل انا على اعلى مراتب الغضب
لماذا…؟
لأنك تذكر الفتك والقتل وتصفهما بصفاة حسنة وهل كان القتل في اي يوم من الايام صفة حسنة…!!!؟؟؟
انك تمارس القتل لتبني حياتك.
انك تزيدني غضبا ويمكن ان اكون واياك على خصام ابد الدهر اذ تتهمني بممارسة القتل…وانا انا كما تعلم احب السلام وادعو الى نبذ العنف فكيف تصفني بهذه الصفة…؟
ادركت انه لم يفهم قصدي ولا انتبه لمعنى كلماتي فسألته:
ماذا اعددت لنا من طعام …؟
رفع الي نظره وتمتم :
مقلوبة
ولم ينه كلامه اذ واصل :
لا تغيير الموضوع ارجوك انت لم تجب سؤالي…!
قلت وانا ابتسم :
لقد اجبت سؤالك من خلال جوابك لي …
ماذا تقصد…؟
قل لي المقلوبة مم تتكون…؟
الرز و…و…والدجاج.
اذن انت استخدمت وسيلة القتل (الذبح) لحيوان ازهقت روحه وجعلته وجبة لطعامك تسد به جوعك وتواصل الحياة.
اليس لهذا الحيوان روح …؟ اليس لهذا الحيوان حياة … ؟ اليس هذ ا قتل واستلاب حياة …؟
فغر فاها وكانه يستمع الى معتوه مشوش العقل وبدى انه يبحث عن كلمات ليرد بها علي ًّلكنه الاخر بدى كمن اصابته الدهشة ولم يهتد الى بغيته لكنه بعد برهة هتف بنبرة من ظفر ببغيته قائلا:
اذا كنت انا قاتلا وآكلا للحوم الحيوانات فأنت ايضا كذلك…
اجل انا كذلك وانا لا ابرء نفسي فلست ممن يحرمون تناول اللحوم الحيوانية التي حللها الله تعالى …
بعد فترة من الصمت واصلت الحديث:
كل شيء في هذا الوجود يأكل بعضه بعضا (الاكل والمأكول) تتكرر وتنفذ في جميع الازمنة والامكنة حتى دون ان يشعر بها المرء …تنهدت وانا افكر بهذا الامر وارسمه في مخيلتي وتذكرت بهذا الخصوص ابيات شعرية للأمام علي الهادي عليه السلام قالها في مجلس الخليفة العباسي (المتوكل) وكان لتلك الابيات الشعرية قصة مفادها ان جماعة سعت بالأمام الهادي الى المتوكل تخبره بأن في منزل الامام سلاحا وكتبا وغيرها واضافوا الى ذلك كذبة اخرى زاعمين ان الامام يطلب الامر لنفسه ,لذا ارسل المتوكل مجموعة من الاتراك ليلا ليهجموا على منزله على حين غرة ,فلما باغتوا الامام عليه السلام وجدوه وحده مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن الكريم وليس بينه وبين الارض بساط ,اخذ الامام عليه السلام على الصورة التي وجد عليها ,وحمل الى الخليفة المتوكل في جوف تلك الليلة, وحين مثل الامام عليه السلام بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده الكأس ,فلما رآه اعظمه وأكبره وأجلسه الى جانبه بعد ان اطمئن ان لم يكن شيئا في منزل الامام مما قيل عنه ولم تكن للمتوكل حجة يتعلل على الامام عليه السلام فناول المتوكل الامام عليه السلام الكأس الذي في يده ,فقال الامام :
يا امير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط ,فاعفني ,فأعفاه, فقال المتوكل:
انشدني شعرا استحسنه
قال الامام :
اني لقليل الرواية للشعر.
قال المتوكل:
لابد ان تنشدني شيئا….
فانشده الامام عليه السلام هذه الابيات :
باتو على قلل الاجبال تحرسهم غلب الرجال فما اغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم واودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا اين الاسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة من دونها تضرب الاستار والكلل
فافصح القبر حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما اكلوا دهرا وما شربوا فأصبحوا بعد طول الاكل قد اكلوا
وطالما عمروا دورا لتحصنهم ففارقوا الدور والاهلين وارتحلوا
طالما كنزوا الاموال وادخروا فخلفوها على الاعداء وارتحلوا
اضحت منازلهم قفرا معطلة وساكنوها الى الاجداث قد رحلوا
سل الخليفة اذ وافت منيته اين الحماة واين الخيل والخول
اين الرماة اما تحمي باسهميهم لما اتتك سهام الموت تنتقل
اين الكماة اما حاموا اما اغتضبوا أين الجيوش التي تحمي بها الدول
هيهات مانفعوا شيئا وما دفعوا عنك المنية ان وافى بها الاجل
فكيف يرجوا دوام العيش متصلا من روحه بجبال الموت تتصل
جسمه لبنيان الردى غرض وملكه زائل عنه ومنتقل
هنا بكى المتوكل وبكى كل من كان حاضرا وامر المتوكل برفع الشراب
انتهيت من هذا الحديث ونظرت الى صاحبي فرأيته يهز رأسه وقد بدت عليه علائم التأثر والتفكر و هو مطرق الى الارض قليلا ثم تنهد بأسف لحقيقة مرة نعيشها في كل لحظة في كل ثانية تتكرر وتتكرر منذ بدء الخليقة ثم تمتم:
هكذا هي الحياة فماذا نفعل…؟
وكأن الفكرة التي افكر فيها قد ارتسمت في مخيلته هو الآخر فرحت الوم نفسي على ما بدر منها اذ انني بهذه العبارات حولت لحظات الصفاء والبهجة الى امر مؤلم وافكار لم يكن من المستحسن الانجرار اليها فما كان مني الا قلت وقد ارتسمت بسمة على شفتي:
رحم الله الشاعر ابا العلاء المعري
نظر الي بعينين متسائلتين ولسان حاله يقول متسائلا:
ما بالك اليوم تجرنا من حديث ذي شجون الى آخر اشجى منه …؟
ثم استدرك بعد لحظة:
من ذكرك بابي العلاء المعري …؟
ذكرني فيه قراءتي لبيت شعري بهذا الخصوص
حدثني عنه فقد شوقتني لمزيد من المعرفة عن هذا الشاعر الفذ وان كان غني عن التعريف…
لا اخوض في حديث عن الشاعر ولكن فقط اخبرك عن مناسبة البيت الشعري الذي قال وله علاقة بموضوعنا الذي نحن بصدده
وما هو…؟
الذي دعاني لذكر الشاعر ابو العلاء المعري( رهين المحبسين , ابتلاؤه بفقدان البصر واختياره العزلة عن الناس ) فهو ايضا حرم على نفسه تناول اللحوم الحيوانية ويحكى انه ذات يوم اصيب بوعكة صحية ووصف له تناول طعام يحتوي على لحم الدجاج فذبحت له فروجة وطبخت وقدمت له ولما كان المعري ضريرا كما هو معروف لمس الفروج بيديه وحزن لذبحه فقال شعرا يذكر فيه ان هذه الفرخة ضعيفة استضعفوها ووصفوها دواء ولو كانت قوية كالأسد لما امكنهم ان يجعلوا منها دواء ويصفوها لأي داء حيث قال:
استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الاسد؟!
هز صاحبي رأسه وكانت قد ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا أدري ان كانت ابتسامة رضا وقناعة او تقرير واقع وقبول حقيقة نعيشها دائما وان كانت مؤلمة.
اما انا فآثرت ان امسك عن الكلام ولا انبس ببنت شفة وان ظلت عيناي تنظران الى الافق …الازرق …الازرق …الازرق