ثلاثة مكاييل مختلفة، بل ومتعارضة، في ثلاث مشكلات متفاوت زمنها، تعكس في نهاية الأمر- على تناقضها- موقفاً واحداً ومكيالاً واحداً ومعياراً واحداً. هذا الموقف والمكيال والمعيار محدد بما يلي:
كل ما له صلة بمشروع الوجود العربي، أو القوة العربية، أو إسقاط حدود سايكس- بيكو، مرفوض. وكل ماله صلة بـ”المسلمين” مقبول فيه التعاطف المظهري الذي يمتص الحدث السياسي، لا أكثر.. وتستمر المؤامرة الاستعمارية على الجميع.
باختصار ثمة مكيال ومعيار واحد هو مكيال المصالح ومعيارها. وتخترع تلك المصالح قراراتها ومواقفها في ضوء حاجاتها، فهي شديدة حاسمة في “عراق صدام” من أجل النفط، ومترددة خجولة في “سورية” لأن لا مصالح حيوية مهددة هنا، ومرتخية في “فلسطين” لأن فلسطين قد تم شراؤها من النفط بأمنه المستعار.. ولأن إسرائيل وجدت لتبقى أولاً، ولتحكم المنطقة وتمتصها ثانياً، ولتنوب عن الغرب في حماية مصالحه ثالثاً.
تلك هي القضية: إنها عودة الاستعمار القديم في ثوبه الجديد ومفرداته الجديدة وتحت عباءة الشيوخ.
نحن إذاً أمام ثلاثة نماذج، وفي وقت متفاوت نسبياً، من النفاق الاستعماري في ثوبه الجديد.
النموذج الأول: العراق، والثاني سورية، والثالث فلسطين.
في النموذج الأول: العراق تعاملت أميركا وشرعيتها الاستعمارية مع مشكلته بالأمر والفرض، وبسيل دافق من قرارات مجلس الأمن، وقد صدرت جميعاً تحت الضغط وفي ظل التهويل، وكتبت كلها خارج قاعة المجلس ومن وراء ظهر أكثريته… وتحركت القوة الأميركية، بذريعة “الكويت” و”اليورانيوم” بأسرع من لمح البصر.
وفي النموذج الثاني: سورية، تصدر القرارات التي لاتنفذ، على مهل، ويموت المسلمون قتلاً فلا يتحرك ضمير غربي بغير كلمات المواساة، وهي إلى النفاق أقرب، وبكثير من التشفي المضمر وانتظار أن يحسم الموالاة أمر هؤلاء المطلوب تصفيتهم عرقياً ودينياً.
وفي النموذج الثالث: فلسطين، تصدر القرارات فلا تنفذ أصلاً، وتشجع إسرائيل، بل وتتلقى على رفضها القرارات مزيداً من المساعدات والدعم، ويطول الحديث عن السلام والمفاوضات، والتسويات، والتنازلات، والاجتماعات. هنا لايضيق نفس أميركا ومجلس أمنها بعدم التنفيذ، لأن تلك القرارات صدرت تحت ضغط الحدث ولامتصاص ردود فعله، لا لتنفيذها أو احترامها.
ثلاثة نماذج من المعايير والمكاييل، في مواجهة ثلاثة نماذج متقاربة من المشكلات. وكل منها يعكس معياراً مختلفاً، ومكيالاً خاصاً. في مشكلة العراق والكويت كان الأمر وضيق الصدر وفرض التنفيذ، ثم الحرب الصاعقة هي المعيار والمكيال. وفي مشكلة سورية، كانت المماطلة، والمساعدات الخجولة، وكلمات النفاق العطوف، هي المعيار الآخر. وفي مشكلة فلسطين، اليوم كما الأمس، تنقلب المعاير والمكاييل إلى النقيض. فما هو مرفوض في الكويت مقبول في فلسطين، وما هو مماطل به في سورية، محسوم مع الفلسطينيين وإسرائيل.