26 نوفمبر، 2024 3:30 م
Search
Close this search box.

ازدواجية المثقف العراقي : بين إغراء الكتابة وإغواء الخطابة

ازدواجية المثقف العراقي : بين إغراء الكتابة وإغواء الخطابة

لسنا نروم في هذا الموضوع اقتفاء أثر المنهج الذي اختطه العالم الاجتماعي الراحل ( علي الوردي ) في تصنيفه لأنماط الشخصية العراقية الموسومة بازدواج المواقف وتناقض والسلوك – بحسب رأيه – وذلك لوقوعها في مركز تقاطع رواسب القيم البدوية (القبلية) التي طبعت عليها من جهة ، وبين روافد القيم المدينية ( الحضارية ) التي تطبعت بها من جهة أخرى . فتلك ، على أية حال ، قضية يطول شرحها ويكثر تأويلها ، ولا نعتزم حاليا إقحامها في صلب هذه المقالة . بل إن المراد هنا هو شرح وتفسير الآلية السيكولوجية التي يستبطنها المثقف العراقي لمواجهة الطارئ من المشاكل والمفاجئ من الأزمات ، لا سيما تلك التي تطرح تساؤلات حادة وتثيراشكاليات محرجة حول مغزى دوره الاجتماعي وجدوى وظيفته التنويرية ، بعد أن نعاه البعض وشيعه إلى مثواه التأريخي ، قبل أن يسقط عنه هالة التقديس التي كان يتحصن خلفها ، ويقوض أسوار التبجيل التي كانت تقام حوله ، ويزيح النقاب عن خطابات التسبيح التي كانت تلهج بحمده ؛ نتيجة لفقدانه كفاءة التنظير للواقع وجرأة التعبير عن المجتمع ، فضلا” عن مراوحة بندوله الفكري بين ولاءات عدة لا تأتلف إلا لتختلف فيما بينها ، بسائق المصالح الآنية والمنافع العابرة ، كما إن حماسته وتفانيه في الذود عن مصالح هذا الطرف لا تحيد عما يقدمه للآخر، دون أن يراوده، بسبب ذلك، الإحساس بالذنب أو الشعور بالتقصير . وإذا ما أسدلنا الستار ، على سبيل الإيجاز والاختصار ، على حقب التاريخ الاجتماعي التي شهد طوفان أحداثها ، وانغمر في أتون عواصفها المجتمع العراقي بمختلف أطيافه وتنوع مكوناته ، وهو يصبو باتجاه بلورة شخصيته الوطنية ، ويتطلع نحو تأسيس كيانه السياسي ، ويتشوق صوب استئناف عطائه الحضاري ، فانه لا مناص لنا من التنويه إلى واقعة مهمة طالما أهملت قيمتها أو أسئ التعاطي معها – بقصد أو بدونه – من لدن بعض الكتّاب والباحثين المهتمين بالشأن العراقي الحديث ، والشغوفين بتتبع مساره المعاصر والمولعين باستقراء مآله في المستقبل . وهي انه على مدى ما يزيد عن ثمانية عقود مدبرة اتسمت ، في معظم الأحيان ، بالتقلبات السياسية والتوترات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والاختلالات الثقافية ، وضع خلالها إنسان هذا البلد المنكوب بين شقي رحى طاحنة سحقت أحلامه ومحقت رغباته ؛ فمن ناحية العوز المادي وضرورات البقاء ، ومن الناحية الثانية العجز الإرادي وآليات الإقصاء . في إطار الشق الأول ، ارتهن مصيره الوجودي واستمرار بقاءه على قيد الحياة ، بضمان حصوله على الحد الأدنى من مقومات قوته اليومي ، والتشبث بكل ما يسهم باستتباب أمنه واستقرار سلامته ، فضلا” عن المواظبة على تأمين مستلزمات الحفاظ على أسرته والحيلولة دون انقراض أجياله ، بحيث يبقى مشلول الإرادة ومغلول العزيمة لا يقوى على التحرر من قيود شظف العيش التي تكبل طاقاته أو الإفلات من دوامة الكفاف التي تعتصر كيانه . فإذا ما تجاسر واشرأبت طموحاته إلى ما وراء تلك الحاجة ، كأن يقوم بفعل احتجاج ضد موقف سياسي معين أضر بمصالحه الأساسية ، أو يؤيد دعوة مناوئة تطالب بمراعاة العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية ، ودرء الانتهاكات المتواصلة ضد حقوقه الإنسانية وإهدار كرامته الآدمية ، أو تتهئ  له القدرة على تجسيد إرهاصاته الفكرية وبلورة لواعجه النفسية ، بصيغة خطابات ثقافية أو أدبية أو فنية ، يستنبط من خلالها خيارات بديلة يرتأى إنها تقيل عثرة المجتمع وتستصوب انحراف الدولة ، فان بطش السلطة المستبدة وقمع النظام الدكتاتوري سيقفان له بالمرصاد . ولهذا فإن (( الناس – كما أشار بحق أحد رواد الفكر الليبرالي الغربي جون ستيوارت ميل – لن تفضل الحرمان من وسيلة كسب عيشهم على السجن)) . أما في إطار الشق الثاني  فقد أخضع لعمليات تجهيل ثقافي وتنكيل عقلي واسعة النطاق ، فضلا عن تعرضه لممارسات قسرية طويلة الأمد استهدفت تحريف قيمه وتزييف معتقداته ، الغاية منها صرفه عن الاهتمام بوضعه الاقتصادي المزري ، ومنعه من التعرف على واقعه الإنساني المرير، وحرمانه من استشعار جرائم الظلم الاجتماعي التي لحقت به ، ومن ثم إبقائه سجين أوهامه عن كينونة ذاته وأسير خرافاته عن ضرورة علاقاته ، بحيث لا يتسنى له التفكير إلا بطرق إنقاذ نفسه ، ولا يبحث إلا عن أساليب خلاصه الذاتي . الأمر الذي أجهض الكثير من محاولات الإصلاح السياسي وقوض العديد من مشاريع العمران الاجتماعي التي تضمنتها برامج بعض الأحزاب والحركات السياسية خلال العقود التالية على تأسيس الدولة العراقية الفتية ، ناهيك بالطبع عن محاولات الحكومات ( الوطنية ) المتعاقبة تحت شتى العناوين والمسميات لحيازتها على الشرعية الكاذبة من جهة ، وضاعفت وعمقت ، من جهة أخرى ، مظاهر التخلف الاجتماعي والركود الاقتصادي والتأخر الثقافي ، التي ضربت أطنابها المرافق الرسمية والشعبية كافة ، بحيث استوطنت ، نتيجة لذلك ، العديد من حالات الفساد السياسي وتدهور الحمية الوطنية وغياب الوازع العرفي ، وتكاثرت في البيئة العراقية البكر نزعات نفسية وتوجهات فكرية كانت غريبة عنها وطارئة عليها، أثمرت بتقادم الأيام والسنين تكوين أجيال من المتعلمين ( المتحذلقين ) الذين كان يراع العالم الاجتماعي العراقي الراحل ( الوردي ) باذخا”في وصفهم ولاذعا” في نقدهم . إذ : (( إن سلطة التقاليد والطقوس الاجتماعية المتوارثة – كما وجدها الباحث والمؤرخ العراقي الدكتور سيار الجميل –  وسلطة قوانين ( أعراف ) العشيرة ، وشكليات العلاقات المهزوزة ، ومؤسسات الأوقاف ، والطرائقية الصوفية ، والموروثات السلفية .. ، كانت ولما تزل أشكالا” من قهر السلطة السوسيو- تأريخية ، وقمعها لنخبة الاستنارة والمثاقفة معا” ، فكان أن ظهر تعارض مطلق ناشز بين الكيان الاجتماعي المعقد الذي كان يريد إرضاء أفق التفكير السائد بكل أنساقه الأفقية ، وبين الوعي الحقيقي بالتغيير والنضال من أجل إجراء التحولات الفكرية المستحدثة : صدمات متعددة بين المهن القديمة ( طبقة صناع ، الحرفيون ، التجار الصغار ) وبين المهن الجديدة ( المثقفون من الصحفيين والأطباء والمحامين ) ومتعارضات ساخنة بين الأجهزة الدينية المتوارثة في التدريس ( الجوامع والكتاتيب والمدارس الدينية ) وبين المؤسسة التربوية والتعليمية المدنية ( المدارس الرسمية الحديثة ) . باختصار : حدوث تناقضات واسعة النطاق بين الاعتبارات الأفقية القديمة وبين المؤسسية العمودية الحديثة )) . ولك أن تتصور على ، وفق هذه الخلفية الملتبسة ، طبيعة الصراع الذي ستدور رحاه بين القيم التقليدية الموروثة بكل أثقالها الرمزية وأحمالها التقديسية من جهة ، وبين نظيرها من تلك القيم الحديثة الوافدة وما تحمله من تغيير وما تضمره من تطور ، ستطال بالتأكيد مخزون الذاكرة وذخيرة الثقافة .        
[email protected]

أحدث المقالات