ازدواجية القومية العربية ذات الجذور القبلية بين تفكيك الخلافة وإقصاء التعددية العرقية

ازدواجية القومية العربية ذات الجذور القبلية بين تفكيك الخلافة وإقصاء التعددية العرقية

إن أي تحليل للمفاهيم التي تأسست عليها ما يسمى بالقومية العربية هذا إن كانت في الاصل قومية عضويةوليست مشروعاً ثقافياً سياسياً يقوم على انتقاء اللغة والتاريخ المشترك – ،  يجب ان يبدأ بتحليل الازدواجيةالتأسيسية للفكر القومي العربي، إذ تكشف الدراسة التاريخية والنقدية للمواقف التي اتخذتها النخب السياسية والثقافية العربية منذ انهيار الخلافة العثمانية عن تناقض صارخ، فالدول القومية العربية ولدت من رحم تحالفات مع القوى العربية مثل( اتفاقيات سايكس بيكو ومراسلات مكماهون)، ثم ما لبثت ان حولت الاسلام الى ايديولوجيا تسويغية وكأداة لشرعنة هيمنتها، حيث جرمت مطالب القوميات غير العربية مثل الكورد والامازيغ والاقباط والكلدان واليهوم الشرقيين، تحت ذرائع الوحدة الاسلامية، والخيانة، تلك الازدواجية لم تكن سوى نتاجاً لبنية قبلية سياسية،  مختلطة، اختزلت الاسلام في العروبة، وروجت لاسطورة التفوق العرقي العربي مستندة الى قراءة انتقائية للتاريخ، فبينما قدم تفكيك الخلافة العثمانية كتحرر من الاستعمار التركي، نظر الى مطالبة الكورد بالحكم الذاتي على سبيل المثال كتمرد على الجامعة الاسلامية، تلك المفارقة تكشف ان المشروع العربي القومي العربي كان في جوهره اداتاً للسلطة أكثر منه تعبيراً عن هوية جماعية حقيقية، مما افرز بنية اقصائية مزقت النسيج الاجتماعي للمنطقة.

شهدت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين اضطرابات كبرى في بنية الدولة العثمانية، التي كانت تمثل آخر صيغة سياسية جامعة للمسلمين بمختلف اعراقهم، وفي خضم ذلك التفكك نشأت حركات قومية عربية تطالب بالاستقلال، مدفوعة بشعارات التحرر وبفكرة الانعتاق من الاحتلال التركي، وقد لعبت بريطانيا وفرنسا دوراً مركزياً في تشجيع تلك الحركات، عبر وعود بدول عربية مستقلة، كما حصل في المراسلات الشهيرة بين الشريف حسين وهنري مكماهون؛ غير أن تأسيس الدولة القومية العربية لم يتم على أسس مدنية أو ديمقراطية، بل غالباً ما جاء على قاعدة قبلية، مناطقية، وعائلية، كما في الحالة السعودية، الاردنية، اليمنية، وقد غيب مفهوم المواطنة لصالح قيمة القومية العربية التي اعتبرت ذاتها ممثلة الاسلام، رغم كونها نشأت في الاصل على انقاض دولة الخلافة الاسلامية، فاتخذت تلك الدول الحديثة شكلاً هجيناً يجمع بين القومية العرقية والدين، فصاغت هوية وطنية تقوم على العربي المسلم، مما أدى الى تهميش مزدوج لغير العرب مثل الكورد، وغير المسلمين مثل اليهود الشرقيين، بل وحتى للمسلمين غير العرب مثل الامازيغ، تلك المفارقة التأسيسية هي ما ستنتج لاحقاً منظومة مزدوجة في تعاملها مع القوميات الاكثر اصالة في اراضيها، تلك القوميات التي جذورها واضحة في التاريخ بالطبع القوميات غير العربية.

الازدواجية القومية بدأت منذ هدم الخلافة العثمانية الى رفض الاخرين، إذ عملت النخب القومية العربية، خصوصاً الناصرية والبعثية، على ترسيخ فكرة أن العرب هم حماة الاسلام ورعاته الشرعيون، وأن وحدة الامة الاسلامية لاتتحقق إلا تحت راية العروبة- تلك الفكرة لها جذورها في التاريخ العربي الاسلامي منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة إذ ترسخ لدى القبائل العربية منذ تلك الفترة أن السلطة يجب ان تبقى عربية – ، وذلك ما جعلهم ينظرون الى كل مطالبة قومية اخرى سواء من الكورد  أو الامازيغ أو حتى الاقباط والكلدان -، كتهديد للوحدة، بل وكخيانة، في المقابل لم تعامل الحركات العربية نفسها بالمنطق ذاته حين تحالفت مع ما كانت تسميه بالاستعمار الغربي ضد الدولة العثمانية، بل اعتبرت حركات تحرر، فعلى سبيل المثال، دعم البريطانيون الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، في الوقت الذي يُتهم فيه الكورد بالخيانة لمطالبتهم بدولة قومية مستقلة أو حكم ذاتي، كما حدث في استفتاء كوردستان العراق سنة 2017، من جهة اخرى فإن القضية الامازيغية في شمال افريقيا تعاني من التهميش ذاته، ففي الجزائر والمغرب، وعلى الرغم من أن الامازيغ يشكلون نسبة سكانية معتبرة، فقد استبعدت لغتهم وثقافتهم لعقود، ولم يعترف بها إلا مؤخراً بعد نضال طويل.

أما الاقباط في مصر، فقد وُجهت مطالبهم بالمساواة التامة في الحقوق والتمثيل السياسي والثقافي بخطاب ديني وقومي مزدوج، يربط بين المسيحية والتبعية للغرب أو لاسرائيل، في تكرار لنمط التخوين نفسه مع الكورد، وذلك ما يوضح بشكل جلي كيف ان ازدواجية الفكر القومي العربي تظهر من خلال استخدامه الدين كأداة سياسية، فبينما استخدم الاسلام لتبرير الرفض القاطع لمطالب الكورد أو الامازيغ، لم يستخدم بالمثل لمساءلة شرعية التحالفات مع ما تُسَميه بالاستعمار، أو لتبرير الانفصال عن الدولة العثمانية، ذلك الانفصام لا يفسر إلا برغبة السلطة في احتكار الشرعية، وتجريم أي محاولة لبناء هوية خارج الهوية العربية المركزية؛ فالحملات العسكرية ضد الكورد في سوريا والعراق، والضغوطات على نشطاء الامازيغ في الجزائر، والحملات الاعلامية ضد الاقباط في مصر، كلها تبرر باسم حماية وحدة الامة، بينما الحقيقة هي دفاع عن هيمنة الدولة القومية ذات البعد الاحادي.

تزخر المنطقة العربية بتنوع إثني وديني وثقافي، ومن غير الممكن بناء استقرار حقيقي دون الاعتراف بهذا التنوع، التجارب الدولية في سويسرا وبلجيكا وكندا وغيرها، اظهرت أن التعدد لايهدد الوحدة، بل يعززها حين يدار عبر مؤسسات عادلة، لذا فان الاعتراف الدستوري باللغات والثقافات الاخرى، وضمان التمثيل السياسي والمشاركة المتساوية،  هي خطوات اساسية للخروج من مأزق الازدواجية القومية، كما أن إعادة النظر في الخطاب الديني القومي وابعاده عن مفاصل القرار السياسي يمثل ضرورة عاجلة؛ مما يعني أن ازدواجية الفكر القومي العربي ليست مجرد مفارقة تاريخية، بل هي منظومة فكرية وممارساتية مستمرة، تقصي الاخر وتشرعن العنف ضده باسم الوحدة، على الرغم من انه نفسه تشكل في بيئة مزجت بين الدين والقبلية والغنيمة، فالتحولات السياسية الكبرى في صدر الاسلام مثلاً لم تكن ابداً دينية خالصة، بل كانت مشبعة بصراعات السلطة والهوية، وما لم يعاد النظر الى تلك البنية، فإن المنطقة ستبقى أسيرة لصراعات داخلية مزمنة تغذيها اسطورة التفرد العروبي باسم الدين والقومية، فبناء مستقبل مشترك يتطلب شجاعة فكرية للاعتراف بالاخر، لا تخوينه، واحترام التعدد لا قمعه، وذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق عدالة تاريخية ومجتمعية في منطقة لم تبرأ بعد من جراح تفكيكها الاولي.

أحدث المقالات

أحدث المقالات