23 ديسمبر، 2024 10:11 ص

ازدواجية الجسد .. تحالف القط والفأر أنموذجا !

ازدواجية الجسد .. تحالف القط والفأر أنموذجا !

في فلسفة العقل , تعتبر الشخصية الازدواجية Dualism شكل مخيف في رؤيتها للمحيط الخارجي . ففي الجسد البشري الطبيعي الواحد قلب واحد ولكن بفعل الازدواجية التي تخلقها الانحرافات يصبح لهذا الجسد جسد آخر في داخله فيتقاسمان ذلك القلب الواحد. لذلك ينشأ نوع من التناقض في الجسد الطبيعي الواحد فيثأر الجسدان , أحيانا , احدهما من الآخر بفعل تراكمات نفسية وانتهاكات اجتماعية تارة أو نداءات خفية تارة أخرى تتحدى سلطة العقل , إذ تتشكل لغتين في هذا الجسد وهو في وسط المنظومة الاجتماعية التي تتحدث بلغة واحدة لا تنطوي على ظلمة فتحجب العدل أو الحوار الحضاري وهي , بالطبع , لا تنسجم مع حالة الجسدين المحتجبين داخل احدها الآخر في شخصية الإنسان أو المنظومات السياسية .

يمكن أن نقول بأن هذا التناقض , أو الازدواجية , هي سمة الفرد العادي أو المسؤول السياسي وأحيانا يكون فيها رجل الدين ضحيتها تحت ظروف شتى . فالمسؤول السياسي هو إنسان شأنه شأن ذلك الذي يمرّ بمراحل عديدة أثناء الصبا وخاصة في العراق في فترات الاضطرابات السياسية ومنها الاضطهاد , الكراهية , الشعور بالنقص , الغيرة , الكآبة , الفقر , متوالية الحروب المدمرة والحصار الاقتصادي . وهذه جميعا تعصف بالإنسان أولا وباقتصاد بلده بشكل عام ثانيا فتلقي بآثارها النفسية السلبية على الفرد والمجتمع والمنطقة على حد سواء .
ولكن هذا لا يفسر أن الأفراد أو الدول يفسدون بفعل هذه النوائب , بل إن البعض يخرج منها من دون أن يلتقط أي مرض اجتماعي من جراءها , فيبقى الفرد ثابتا في سلوكه وانفعالاته من دون أي ضرر يلحقه بمجتمعه . أما البعض الآخر فيتأثر بها فنراهم يحملون آثارها فلا يتمتع بتلك السمات , بل نراه يسلك طريقا مخالفا فيصبح كحامل المرض المعدي الذي لا يسلم من أمراضه احد .
يأتي هذا الإنسان إلى موقع المسؤولية شأنه شأن أي فرد في المجتمع من دون أي مراجعة لتأريخه الشخصي وشخصيته الحقيقية فيكتسب لقب ” المسؤول الفاسد ” . وهنا يبدأ هذا الحامل للمرض بممارسة مهامه وفقا لنوع المرض الذي يحمله , فالاضطهاد عن طريق عقوبة السجن أو التعذيب أو موت أحد أفراد عائلته أو التهجير يولّد الكراهية فيجعله يلجأ إلى تشكيل تكتلات مع من تعرض للاضطهاد لممارسة الاضطهاد نفسه مع مضطهديهم أو اقرأنهم أو مع طوائفهم مما يسفر عن ذلك حالة من الثأر يكون ضحيته البلد والمجتمع وتراجع في عجلة التقدم والرخاء فيهما.
الأمثلة كثيرة على هذه الممارسات التي جرت في بلدان عديدة سواء في العهود السابقة أو اللاحقة . فالطريقة التي اتبعها الأتراك , مثلا , مع الأرمن خير مثال على اضطهاد القوميات الأخرى من غير القومية التركية التي ولّدت الكراهية نحو الأتراك منذ مئة عام . ومازال العالم ينتقد بقسوة تلك الممارسات اللاإنسانية وتعتبرها انتهاكا لحقوق الإنسان الطبيعة في الحياة .
أحد الأسباب في انضمام الشباب إلى المنظمات الإرهابية هو نوع آخر من الاضطهاد سببه رفض للمسلمين في الاندماج من قبل الشعوب الأوربية والمعاملة السيئة من قبل المواطنين الأصليين واستهجان كبير لعقائدهم وذلك بعدم الترويج لها في وسائل الأعلام المرئية والمسموعة أو التعاطف مع القيم السامية لتلك العقائد مما يولّد الكراهية والإحباط لديهم والعمل على تدميرهم كما هو الحال مع تنظيم داعش الإرهابي والمنتمين تحت لوائه الذين يدعون الإسلام كذبا فجعلوه غطاءا لكسب ممن لديهم مشاكل نفسية وطائفية بسبب تلك التصرفات الأوربية.
المسئول الفاسد في أي مكان من العالم لا يختلف عن عناصر داعش الإرهابي في ممارساته اللااخلاقية في القتل والتدمير وإثارة النعرة الطائفية أو اللجوء إلى المحسوبية والمنسوبية في تعيين الموظفين من حوله , ولا يختلف عن الخائن الذي يعمل على تخريب بلاده وتبعيته للأجانب أو القوى الإقليمية .
الذي يجري الآن هو النموذج المضطَهَد في المجتمع الأوربي , البعيد عن الاهتمام وعن الاندماج وبعيد أيضا عن المعايير التي تقوم عليها قوانين ذلك المجتمع. فالمهاجر , مثلآ , لا يتحيز له أبناء مجتمعه الجديد ولا ينفتح له , فيتولد لديه شعور انه في مجتمع مغلق ومعادي لتاريخه وعقيدته فيتحول إلى إنسان دوني مصنوع في مجتمع متعالي لا يقدم له البديل الإنساني الواقعي لبلده الأصلي ما ينشا عن ذلك حربا نفسية يكون فيها المنتصر الفكر المتطرف الذي يهيمن على المهاجر فيؤول الثوابت إلى متحول بدعم من منظرين منحرفين ليهيأ الأرضية اللازمة لعملياته الإرهابية ويؤسس إلى مؤسسات دينية مزيفة للتنظير تسهم في تقويض القيم الاجتماعية بدوافع تاريخية أو طائفية بغيضة يكون ضحيتها المجتمع الدولي بشكل عام.
ما يحصل في الغرب هو هذا النوع من التعامل مع المهاجر الذي بدوره يرى أن الفرد الأوربي هو السوبر مان , له جميع الامتيازات السياسية والاقتصادية , فيصف نفسه بالمثالي ولكن على حساب الشعوب المضطهدة والتي هي بالأساس تعاني البؤس نتيجة مؤامراته . إن قلق المهاجر الضعيف الذي يشعر بعدم الانتماء للمجتمع الجديد يتضاعف جيلا بعد جيل فيكون الجيل الأخير هو الصاعق الذي يضرّ بالجميع وبنفسه أولا.
إلى جانب هذا الفهم ,نجد في محيطنا العربي ما يشبه ذلك , فالعرب الآن يبررون قطع العلاقات مع دولة قطر بسبب كونها تدعم وتمول الإرهاب من كافة النواحي . وهنا يبرز سؤال: هل العرب ممثلين بمجلس التعاون الخليجي لا يعرفون ذلك منذ اجل بعيد ؟ الجواب كلا . فالعرب والعالم اجمع يعلم بدور دولة قطر في تقويض بعض الأنظمة العربية وتحالفاتها بقلب واحد مع السعودية وتركيا في رعاية الإرهاب , إلا أنهم كانوا يتسترون عليها بكل ما يملكون من قوة , بل أن معظم المنظّرين الأمريكان كشفوا عن ذلك في العديد من الندوات السياسية ومنذ أحداث سبتمبر 2001وهم يصرحون ليل نهار بذلك.
الأمر المهم الآن , أن عرب الخليج يتعاملون مع نظام قطر بالطريقة نفسها التي يتعامل بها الغرب مع المهاجر , فالعزلة والأبعاد عن الاندماج في مجلس التعاون والحصار الجوي والبري الذي أقاموه ضدها سيضرّ بهم حتما إذا استمر الحال ردحا من الزمن . فالنظام القطري سيصبح مثل الذئب المنفرد الذي سيسعى إلى سبل العيش الملتوية في البيئة الجديدة التي خلقتها السعودية له شأنها في ذلك شأن المتطرف المهمّش الذي يعيش تحت مظلة الاضطهاد والعداء.
أن دعوة السعودية الأخيرة إلى مقاطعة دولة قطر واتهامها بدعم الإرهاب , إن لم يكن في الأمر ريبة , هو الشرك الذي أعدته للعالم , فهي التي قلبت الطاولة على قطر لتكون الضحية الملموسة أمام العالم, وهذا بالطبع من نتائج مؤتمر الرياض الأخير والضغوط الأمريكية التي مارسها الرئيس ترمب عليها . فالسعودية هي نفسها عرّاب الآلية الإرهابية وهي تلتقي مع قطر بازدواجية سياسية وبنَسَب الإرهاب و هم متعادلين إرهابيا, فكيف تتعارض مع الآلية الإرهابية القطرية ؟! فالقط والفار اتفقا على خراب الدار ! كما يقول المثل السوري , وليس على الإعمار.
هذه الوقيعة الممسرحة التي جاءت بها السعودية بشكل متأخر إنما هي كشف لتأثير الغرب عليها وهو الذي بدوره يضحي دائما بالصغير للحفاظ على الكبير ويضحي بالضعيف ليبقي على القوي . والأمثلة على ذلك كثيرة في سجل أمريكا. فتهديدات أمريكا للسعودية حول ثمن الحماية عليها من ناحية ودعمها للإرهاب من ناحية أخرى هي التي خلقت الأجواء لمؤتمر الرياض البائس ليكون غرفة للحوار على الدفع تحت غطاءات عديدة ومنها وقيعتها بقطر!
هذه السياسة التقويضية كانت وستبقى السلاح بيد الدول الكبيرة والقوية في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص والعالم بشكل عام والمدعومة من قبل أمريكا التي أتت أكلها في ليبيا وتونس ومصر إلا أنها لم تنجح في العراق والسبب بسيط وهو أن المرجعية الدينية فيه أدركت بوقت مبكر للمؤامرة والخطر المحدق بالعراق وهي الوحيدة في العالم التي نبهت إلى سياسة خلق وإبراز ثنائية عدائية بين الإسلام المعتدل والإرهاب في منطقة الشرق الأوسط لتستمر إلى فترة تقررها النتائج على الأرض .
وهكذا فإن الازدواجية الشخصية هي انقلاب مستمر في النفس , والسعودية هنا بحاجة إلى أمريكا أكثر من قطر , وهكذا باعت كل تحالفاتها مع قطر لإنقاذ نفسها مما صنعت أيديها من قوى إرهابية تكفيرية . وكأن القط وبُناه التحتية الفكرية الإرهابية سيحظى باحترام العالم , بل والهيمنة على منطقة الخليج العربي , ولكن هذا لن يكون لأنها ليست معيارا للاعتدال في محيطها العربي والإسلامي , لأنه مازال يغذي ويحاكي الأفكار الضالة لأنها لصيقة برجال دين لها وقد أتاحت لهم أن يخرجوا ألسنتهم التمساحية ليمارسوا ازدواجيتهم بالثأر من التاريخ الذي نبذهم وفصلهم جوهريا عن المبادئ الإسلامية التي دعا إليها الرسول الكريم بسبب ضلالتهم وجهرهم في نبذ المذاهب الأخرى وتكفيرها .
فالسياسيون السعوديون مازالوا يقلبون الحقائق ويتعاملون مع العدو ضد مصالح الشعوب الإسلامية. وما صفقة الأسلحة الأخيرة إلا رشوة لأمريكا في باطنها من اجل دفعها إلى تقويض الاتفاق النووي الإيراني وتحريضها على محاربة إيران من ناحية , ودرء انتقادات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان في انتهاكها لحقوق الإنسان في اليمن وأمور أخرى كثيرة من ناحية أخرى. وفي ظاهر هذه الصفقة هو إزالة لجام القط للوثوب بقوة نحو اليمن للتنكيل بشعبها المسلم وربما لمؤازرة أمريكا في سياستها الجديدة في المنطقة ضد إحدى الدول المجاورة لها.
وهكذا أيضا توضح الشخصية الازدواجية كيفية عمل التاريخ معها في خلق عقيدتها المنحرفة لتتحول إلى وحش كاسر, يرفض الأخلاق والقيم فتجعل من الضروري تحقيق أهدافها الدنيئة حتى وان كانت على حساب الأرواح البريئة مثلما فعلت لقيطتها داعش وأخواتها في المنطقة . ولكن هيهات للقط أن يحيى بهيمنة الشيطان عليه لينشر شرائعه المظلمة وقيمه الدونية بين أفراد المجتمع المسلم لأن من حفر حفرة لأخيه , حتما , سيقع فيها , والله الحق يقول : ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ .