مرت احوال على ارصفىة بغداد، مر غزاة من كل بلدان الارض، مر جنود ومسلحون وقطاع طرق، مرت المدافع والدبابات وتساقطت القذائف كما تساقطت الجثث.
مرت كل الانواء على الرصيف البغدادي لكنه لم يسقط في الغياب وظل ملتصقاً بالمدينة ظل مأوى للناس يعبرون به من الحروب والازمات الى الخبر والعمل والمدرسة والثقافة.
رصيف بغداد، ظاهرة تنامت مع سنوات الحروب والحصار والاحتلال، وكلما كانت المدينة تضيق كان الرصيف يتسع، تقفل المؤسسات فيحيا الرصيف. يرتفع معدل البطالة فيزدحم الرصيف، تلتهب المكتبات والمتاجر بالاسعار فيحضر الرصيف مقدماً البديل.
حل الرصيف مكان المدينة، وصار جزءاً من رئتيها يغلي بالحياة وبنفس احتقانها. وقد يقال ان ذلك امر غير طبيعي، حق فيه القول انه بلد سوريالي حيث انقلبت المقاييس والمفاهيم. وفي جولة على ارصفة بغداد تمت جولة على مكتبات الرصيف وثقافة الرصيف.
مكتبات الرصيف هذه احدى المميزات الفريدة التي تميزت بها مدينة بغداد في السنوات التي اعقبت حرب عاصفة الصحراء. ففي اي شارع تقريباً من شوارع عاصمتنا بغداد الرئيسية خصصت امتار من اراضيها لهذه المكتبات، انها مكتبات لبيع الكتب والمجلات القديمة والحديثة، يحيط بها روادها، بعضهم جاء ليشتري وبعضهم جاء ليبيع ما يود التخلص منه لدى اصحاب هذه المكتبات.
شارع الرشيد- ولا سيما الجزء المحصور بين تمثال الشاعر الرصافي وساحة الميدان- لا يزال يختصر المدينة بغداد، فهو وجهها وفيه يتلخص كل شيء. ولأن حرب احتلال التحرير أخذت منه بريقه وازدهاره اللذين كانا اساس ذيوع شهرته، فقد استبدلهما بذلك النشاط الانساني الذي لا يلين، فأحتضن كل انواع الناس، شتى انواع المهن والنشاطات التجارية، وصار مسرحاً لظواهر الازمة.
فعلى امتدادهما، تقوم المكتبات في الهواء الطلق، بين الرصيف والجدار، في الزوايا، في مداخل الابنية، في اكشاك خشبية. وهكذا تختلط الكتب والصحف والمنشورات بصور لشخصيات دينية وحزبية ومستقلة، ويافطات نعي، واعلانات لشركات ومكاتب طباعية، وتتقاطع المكتبات مع عربات العتالة وبسطات الملبوسات وعربات الكرزات وسائقي السيارات وباعة المرطبات… وتبدو تلك المكتبات الرصيفية الصغيرة كما لو انها استعراض ثقافي شعبي يستمر طوال ساعات النهار… وحين تضيق المساحات بالبعض يلجأ الى الجدران ويُثبّت عليها اسلاكه ويمد فوقها كتبه وصحفه حتى تبدو من البعيد كأنها حبال غسيل.
الغريب، ان مكتبات الرصيف هذه بسطت كلها في الهواء الطلق، وعلى الرغم من هدير الحركة وعصف الهواء الذي يحيطها، فان عدد المشترين لا تتأثر بذلك. فعشاق الكتاب ينسون انفسهم وهم يتصفحون الصفحات ويتخيرون العناوين في عناية او يسألون في الحاح عن مؤلفات تعنيهم، وبعض هؤلاء طلاب دراسات عليا يبحثون عن مراجع سمعوا انها تتوفر في مكتبات الرصيف، وبعضهم قراء جادون حضروا من اماكن نائية واجتازوا كثيراً من الصعاب في سبيل حصولهم على الكتب النادرة.
وتجارب السنين القليلة جداً جعلت هؤلاء الباعة يعرفون عناوين الكتب الهامة فيسارعون الى التقاطها من باعتها، وهم يعرفون ايضاً بنظرة خاطفة درجة حماس المشترين وانواع الكتب التي تعنيهم.
ففي تلك المكتبات يمكنك الحصول على ما تريد من الكتب والصحف والمجلات. واذا كان البعض يعرض بضاعته بفوضى تمليها الظروف فأن آخرين ينظمون مكتباتهم وفق اسلوب غاية في الاتفاق، فَيبَوَبون ترنيب الكتب ويفرزون الاجنبية منها عن العربية، الادبي الى جهة والعلمي في جهة اخرى. ومنهم من لجأ الى اعداد لوائح باسماء الكتب الموجودة واسعارها. اما البعض فانه يضع اسعاراً موحدة لجميع انواع الكتب، وهناك من يبيع بالجملة، وهؤلاء ليسوا اصحاب مهنة.
وفي بعض تلك المكتبات يمكنك الحصول على الكتب والمنشورات الصادرة حديثاً، كما يمكنك الاتفاق على طلب كتاب معين لتحصل عليه في اليوم التالي دون عناء.
وكذلك، هناك مكتبات متخصصة للتراث والدين واخرى للمجلات والصحف. واللافت ان بعض المكتبات تؤمن الصحف العربية والاجنبية وبعض المطبوعات الخليعة، وهذه محدودة التداول جداً.
وغالبا ما يحتفظ صاحب مكتبة الرصيف باحتياطي من الكتب والمطبوعات، هي في الغالب من الكتب القيمة من الناحيتين المادية والمعنوية. ففي حوزتهم ثروات من المخطوطات والكتب النادرة والوثائق… الخ فهي تحوي الكثير من النادر وفي كل مجال من مجالات المعرفة بلا استثناء، بل انه كثيراً ما يعثر المرء على مفاجآت مثيرة حين تقع عيناه على عناوين مرجعية لم يكن يعرفها الا في هوامش الكتب.
ومكتبة الرصيف، خاصة في شارع المتنبي، مهنة وهواية، مهنة للبعض الذي سُدت بوجهه سبل الحياة فلم يجد غير الرصيف لعرض بضاعته جمعها من هنا وهناك. ومن هؤلاء من كان يملك مكتبة في الماضي اتت عليها آثار سنوات الحصار وحرب الاحتلال الغاشمة وذيولها… فنقل ما تبقى منها الى الرصيف لعدم قدرته على تحديدها.
وهناك من باعة الكتب (الاسطوات) رأى مصلحة في توسيع عمله وفق القاعدة- مصائب قوم عند قوم فوائد- بشراء الكتب والمجلات التي يحملها من المنازل التي تأتي عليها القذائف الامريكية والميليشياوية او تنال مداهماتهم.. احدهم يقول: انا اجمع الكتب من المنازل المدمرة بعد اخذ الاذن من اصحابها وابيعها بسعر مقبول ومعقول لي وللراغب.
احد الباعة الذي بسط كتبه فوق بعضها قرب مجمع كليات باب المعظم وسط مجموعة من مطاعم الفلالفل والهمبركر، يقول: انه اختار هذا المكان نظراً للازدحام والاقبال على تناول هذه المأكولات، ويضيف: ان زبائن هذه المطاعم يتوقفون امام كتبي ويختارون منها في اغلب الاحيان كتب زهيدة الثمن، كتب قيّمة تصلح لكل الناس. يجب ان يقرأ الناس ويتمكنوا من الحصول على الكتب بسهولة. فالمكتبات التجارية الكبيرة وهي لا تتجاوز في كل بغداد اصابع اليدين مخيفة باسعارها ولا يمكنك شراء الكتاب منها بغير العملة الصعبة او ما يعادلها…
ويقول ايضاً: انا افضل ان تمتلئ شوارع بغداد بالكتب بدلاً من ان تمتلئ بالصيارفة وتجار المال والملبوسات، الكتب اهم شيء في الحياة، فهي الثقافة والمعرفة، واحياناً عندما يجادلني احد الزبائن حول سعر كتاب ما اقدمه له هدية اذا علمت انه فعلاً لا يملك المال الكافي.
يتوقف المارة امام تلك المكتبات يستعرضونها بعيونهم، كثيراً ما يتناول بعضهم كتاباً او جريدة لقراءة فصل او خبر دون ممانعة صاحب المكتبة. وغالباً ما تحدث عمليات تبادل بين الزبائن واصحاب المكتبات. فهذا يبادل كتاباً بآخر، وذلك يبيع ما فاض عن حاجته للتصرف بثمنه. وتبلغ هذه العملية ذروتها في بدايات السنة المدرسية كل عام حيث يقام جانب من سوق المتنبي لمبادلة الكتب حيث يلعب اصحاب مكتبات الرصيف دوراً هاماً في تنظيم عمليات المبادلة والشراء والبيع.
وفي مكتبات الرصيف حكايا وقصص ومآسي، منها مأساة (س) الحاضر الدائم قرب مقهى (__) الذي صمد طيلة سنوات الحصار وايام الاحتلال الاولى مع كتبه الى ان بترته شظية انفجار قدميه فحل مكانه ابنه ليواصل العمل.
ويحدثونك عن (و) الذي كان يبيع اصدارات مركز دراسات الوحدة العربية وكيف قطعه ايضاً انفجار المتنبي فاختلطت اشلاؤه بالكتب والحجارة…
استاذ جامعي نزل الى الرصيف يبيع الكتب، قال لي: لم يعد لي محل في الكلية، مرتبي لم يعد يكفيني، فحملت مكتبتي الى الشارع لأجرب حضي في التجارة. العمل ليس عيباً لكن اشعر بغصة في قلبي، فبدل ان اقوم بواجبي في الكلية اصبحت هنا في الشارع، والحقيقة انني اشعر بالحرج كلما رأيت احد طلبتي… انها الحقيقة.
كانت بغداد مكتبة العرب لكن اين صرنا، ان ذلك لمحزن حقاً. قال صاحب مطبعة هذا الكلام لي وهو يستعرض الرصيف الممتلئ بالكتب، واضاف: هذا ما بقي من تراث العراق.. انه لأمر محزن، لكن الشاب الذي يحرس مكتبته الواسعة عند الرصيف عارض هذا الرأي بقوله: لا تزال بغداد مكتبة العرب ومنارة علمية وثقافية على الرغم من الواقع المؤلم بكل ازماته.. واعتقد اننا هنا جزء من هذا الدور الذي ستستعيده بغداد حالما ترحل شخوص خيباتها التي دخلت مع الاحتلال منتعلة باقدامه العفنة كأي نعال متهرئ.
ويعتبر عدد كبير من الذين سألناهم، رأيهم حول مكتبات الرصيف، ان تلك ظاهرة صحية ومهمة بالنسبة لبغداد، ويقول بعضهم – انها فسحة ثقافية تقطع علينا مشاهدة الازمة، بينما يقول آخرون – مكتبة الرصيف شيء مهم يميز شارع المتنبي وبعض شوارع بغداد، وهو يدل على ان هناك من يتمسك بالثقافة على الرغم من ان ذلك يبدو من قبيل التجارة. فلنتاجر بالكتب بدل المتاجرة بالدولار والمصائب والمخدرات والاغتيالات والمفخخات…
احد الشعراء الذي كان يبحث عن بضعة كتب قديمة لشعراء جاهليين قال: انه يتمنى ان يتحول شارع المتنبي الى مكتبة في الطول والعرض…
مكتبات الرصيف في بغداد اصبحت نوعاً ما احد معالم بغداد الجاذبة للقراء، ربما في تواضعها هذا تصبح او اصبحت من المواضيع التي قد يتوقف عندها التاريخ الثقافي في زمان مقبل، على الاخص اذا كتب لها ان تزدهر وترتفع عن ارضها وتتضلل من لافح الحر وقرص البرد وتندثر بحيطان تكسبها الحشمة وتحول دون هجمات المطر في شتاء بغداد المتقلب.
ربما جاء زمان قريب او بعيد يجعل منها مكتبات اشبه بالمكتبات التاريخية، ونعرف ان بعض هذه المكتبات التاريخية نشأت في زمن غابر بمحض الصدفة تماماً كمكتبات الرصيف في بغداد اليوم.
[email protected]