20 ديسمبر، 2024 8:03 ص

ادواج الجنسية بين الحظر الدستوري والواقع السياسي – رؤية قانونية

ادواج الجنسية بين الحظر الدستوري والواقع السياسي – رؤية قانونية

اِزدواج الجنسيَّـة

بين الحظر الدستوريِّ والواقع السياسيِّ

– رؤيةٌ قانونيةٌ –

 

الحلقة الأولى (1-2)

تُعدُّ الجنسيَّة مظهراً من مظاهر سيادة الدولة، وبمقتضاها يتمُّ تحديد الوطنيِّ وتمييزه عن الأجنبيِّ، حقوقاً والتزاماتٍ. ولقد باتت قضيَّـة ازدواج الجنسيَّة تمثلُ مشكلةً وظاهرةً في الوقت ذاته، تترتَّب عليها نتائج كثيرةٌ في واقع الحياة اليوميَّـة للأفراد الذين أصبحوا مزدوجي الجنسيَّة، طوعاً أو كرهاً؛ لذلك سعت الاتفاقيات والمعاهدات الدوليَّـة، ومعها التشريعات الداخليَّـة، والجهود الفقهيَّـة، لإيجاد الوسائل الناجعة لمعالجة هذه المشكلة والآثار الناجمة عنها، أو في الأقلِّ محاولة التقليل من غلوائها. فلقد أضحى المجتمع الدوليُّ ينظر بعين الريبة والقلق إلى هذه الظاهرة، لا لشيءٍ إلا لأنها تُسبِّبُ بعض المشكلات للدولة والفرد معاً وعلى حدٍّ سواء.

ومن المُسلَّم به في فقه القانون الدوليِّ الخاصِّ أنَّ الدولة حرةٌ في تنظيم المسائل المتعلقة بالجنسية – ما خلا بعض القيود التي تُفرض عليها في هذا الشأن-.ولعلَّ مردَّ تلك الحرية يكمن في أنَّ لموضوع الجنسية صلةً مباشرةً بسيادة الدولة؛ لذا فإنَّ تجريدها من تلك الحرية يعني بالضرورة سلبها سيادتها، وهو أمرٌ لا يمكن أن تقبل به أية دولة. وإذْ تكون للدولة تلك الحرية في مسألة الجنسية وما يرتبط بها من شؤونٍ؛ فالنتيجة المنطقية المترتبة على ذلك تتمثل بنشوء ظاهرةٍ تُعرف بـ “ظاهرة ازدواج الجنسية أو تعدُّدها”.

ولقد نعلم أنَّ القانون العراقيَّ قبل عام 2003لم يكن ينظر بعين الريبة إلى هذه المشكلة فحسب، بل عدَّها من الأمور المحظورة، ولم تكُ نصوص قوانين الجنسية العراقية المتعاقبة تتبّني الازدواج في الجنسية. ولقد استمرَّ الأمر على هذه الوتيرة حتى صدور الدستور الدائم لجمهورية العراق في عام 2005، الذي مَثّل سابقةً جديدةً، بإعلانه في المادة (18) التسليم بظاهرة الازدواج في الجنسيَّـة بشكلٍ صريحٍ .

ولم تمضِ مدةٌ طويلةٌ حتى سُنَّ قانون الجنسيَّـة العراقيَّـة النافد”الجديد” رقم 26 لسنة 2006 ، الذي اقتفى أثر الدستور العراقيِّ، حذو القُذّةِ بالقُـذَّة، فجاءت مادته العاشرة لتعلن لأول مرةٍ في تأريخ قوانين الجنسيَّة العراقيَّة حقَّ العراقيِّ بالاحتفاظ بجنسيَّـته الأجنبيَّـة الأخرى، مالم يُعلن (طواعيةً) تحريرياً عن تخلِّـيه عن الجنسيَّـة العراقيَّـة. بيد أنَّ حظر الازدواج بقي مستمراً بحقِّ أصحاب المناصب السياديَّـة والأمنيَّـة الرفيعة .

ماهيَّة ازدواج الجنسيَّـة وموارد إباحته وحظره :

يمكن القول بعبارةٍ موجزةٍ إنَّ ازدواج الجنسية “أو تعدُّدها” يعني أن تثبت للفرد جنيستان أو أكثر في وقتٍ واحدٍ، ثبوتاً قانونياً على وفق قانون كلِّ دولةٍ من الدول التي يحمل جنيستها.بعبارةٍ أخرى أنَّ هذه الظاهرة تتحقَّق في الحالة التي ترى فيها قوانين الجنسية في دولتين أو أكثر أنَّ فرداً ما ينتسب إليها.وغالباً ما يكون الازدواج ثنائياً، وهو الذي يُطلق عليه “ازدواج الجنسيَّـة”، بيد أنَّ من المتصوَّر أن يتمتَّع الفرد في وقتٍ واحدٍ بأكثر من جنسيَّـتين -التعدُّد-.

ومن هنا يتَّـضح أنَّ الازدواج إنما يقصد به الحالة الغالبة، وهي أن يتمتَّع الفرد بجنسيَّـتين في وقتٍ واحدٍ، وأنَّ التعدُّد يُطلق ويُراد به تمتُّع الفرد بأكثر من جنسيتين. وبناءً على ذلك يكون التعدُّد أعمَّ، والازدواج أخصَّ، إذ إنَّ كلَّ ازدواجٍ هو تعدُّدٌ ، وليس كلُّ تعدُّدٍ هو ازدواجٌ ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص .

لقد أجاز دستور جمهورية العراق الدائم لعام 2005 ازدواج الجنسيَّـة بنصٍّ صريحٍ لا لبس فيه، وذلك في البند (رابعاً) من المادة (18) التي نصَّت على الآتي :

((يجوز تعدُّد الجنسيَّة للعراقيِّ …. )). ولقد جاء قانون الجنسيَّـة النافذ – الجديد- رقم 26 لسنة 2006 مقتفياً أثره في البند ( أولاً ) من المادَّة (10) التي نصَّت على الآتي :

((يحتفظ العراقيُّ الذي يكتسب جنسيةً أجنبية بجنسيته العراقية، ما لم يعلن تحريرياً عن تخليه عن الجنسية العراقية)).

بيد أنَّ الدستور والقانون، وإنْ أقرَّا مبدأ الازدواج في الجنسية للعراقيِّين ، إلا أنه ليس إقراراً مطلقاً، بل هو مقيّدٌ، وهذا التقييد يتعلق في من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً، إذ إنَّ شخصاً مثل هذا ليس مسموحاً له الازدواج، بل عليه أن يتخلى عن الجنسية الأخرى. بعبارةٍ أوضح أنَّ الدستور العراقي ومن ورائه قانون الجنسية الجديد لا يجيزان ازدواج الجنسية أو تعدُّده عندما يصل الأمر إلى شخصٍ يتبوأ موقعاً سيادياً أو أمنياً رفيعاً. وهذا ما صرَّحت به المادة (18) من الدستور في بندها ( الرابع )، المذكور آنفاً، إذ جاء فيها ما يأتي :

((يجوز تعدُّد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً، التخلِّي عن أية جنسيةٍ أخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانون)).ولقد كُرِّر النصُّ ذاته في قانون الجنسيَّـة الجديد، إذ قضى البند ( رابعاً ) من المادة (9) منه بالآتي :

((لا يجوز للعراقي الذي يحمل جنسيةً أخرى مكتسبة أن يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً إلا إذا تخلى عن تلك الجنسيَّـة)).

وبمقتضى هذين النصَّين يكون لزاماً على هذا الشخص – الذي يتبوأ منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً- القيام بأحد أمرين :

الأمر الأول: قبول المنصب، ولكن بشرط أنْ يتخلى عن جنسيته الأجنبية.

الأمر الثاني: رفض المنصب، وفي هذه الحالة يُطبَّق عليه ما يطبق على جميع العراقيِّـين، وهو قبول مبدأ الازدواج في الجنسية.

وبالنظر لأهمية هذا الموضوع وحداثته في العراق دستورياً، ولعدم تطرُّق القانون إلى بيانه وتفصيله، ولانعدام القرارات القضائية المتعلقة به، ولعدم وجود الدراسات القانونية المتخصِّصة التي سلّطت الضوء عليه وأوضحت المراد منه، وتيسيراً للموضوع وايصاله إلى الإخوة المعنيِّـين، من القانونيّين والبرلمانيّين والإعلاميّين وغيرهم، واستمراراً لما قدَّمناه سلفاً في الموضوع قبل سنواتٍ مضت، وتزامناً مع إعلان السيِّـد رئيس الجمهوريَّـة تخليه عن جنسيَّـته الأجنبيَّـة الأخرى – البريطانية – ؛ لذا سنتولى القيام بذلك كلِّه عبر مسائلَ ثلاثٍ :

الأولى: ما معنى المنصب السياديِّ أو الأمنيِّ الرفيع، وما المراد منه ؟

الثانية: كيف يتمُّ التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة الأخرى ، وما هي الآليات المعتمدة في ذلك، ومتى يكون ذلك التخلِّي؟

الثالثة: ما هي الحكمة من وراء هذا القيد، أعني بذلك قيد حظر الازدواج لذوي المناصب السياديَّـة أو الأمنيَّـة الرفيعة؟

وسنتحدث اليوم عن المسألة الأولى، ونرجئ الأخريين إلى الحلقة الثانية من هذه المقالة.

المسألة الأولى: معنى المنصب السياديِّ والأمنيِّ الرفيع :

في الحقيقة لم يُبيِّن الدستور المقصود بذلك، ولم يعطِ أمثلةً عليه.بل اكتفى بوضع القاعدة العامة المتمثلة بحظر الازدواج في الجنسيَّـة لذوي المناصب السيادية أو الأمنية الرفيعة، وإباحته لغيرهم. ولربَّما يكون سكوت الدستور عن بيان التفاصيل أمراً حسناً؛ كي تبقى الساحة مفتوحةً لتقبُّل ما قد يستجدُّ من أمورٍ ؛ إذ ليس من شأن الدستور الاستغراق في التفاصيل. ولربَّما يكون ذلك أمراً سيئاً، إنْ نشب الخلاف مستقبلاً حول تكييف بعض المناصب، وإنه لأمرٌ واقعٌ لا محالة . ولقد سار قانون الجنسية النافذ – الجديد- على نهج الدستور، فلم يوضح هو الآخر، ولم يعطِ مثالاً، في موقفٍ لا يسلمُ من النقد، ولا يخلو من الجرح؛ لأنَّ سكوت الدستور عن التفاصيل وإحالتها إلى القانون تعني قيام الأخير ببيان هذه التفاصيل، ولا يُقبل هاهنا أنْ يُكرِّر القانون ما ورد في الدستور دون أية إضافةٍ بيانيةٍ أو حُكميةٍ. فلا مناص والحال هذه من الرجوع إلى وسائل التفسير.

المنصب المشمول بالحظر الدستوريِّ لازدواج الجنسية وشروطه:

وإعمالاً لوسائل التفسير وقواعده؛ يمكن أنْ نستنتج من النص الدستوري الوارد في البند (رابعاً) من المادة (18) المذكور آنفاً أنَّ المنصب الذي يكون مشمولاً بحظر الازدواج في الجنسية ينبغي أنْ يتوفَّر فيه شرطان أو قيدان اثنان :

1- أن يكون المنصب سيادياً أو أمنياً، وهو ما يعني وجود إحدى صفتين في المنصب المحظور، هما: الأولى صفة السيادية، أي أنْ يكون المنصب ذا طبيعةٍ خاصَّـةٍ يمثل قدرة الدولة وسلطتها في ممارسة صلاحياتها وبسط سلطانها ونفوذها على إقليمها وشعبها، وليس منصباً عادياً ضمن سلك الوظيفة العامة. وإذ يكون للسيادة مظهران، داخليٌ وخارجيٌ، فإنَّنا نستبعد هنا السيادة بمفهومها الخارجيِّ المرتبط بالقانون الدوليِّ العامِّ، إذ لا محلَّ له. أمَّا على المستوى الداخليِّ فيبدو أنَّ الأقرب للنصِّ هو السيادة الداخلية بمفهوميها السياسيِّ والقانونيِّ، في تفصيلٍ لسنا بصدد بيانه الآن. ولعلِّي لا أجانب الصواب إذا قلتُ إنَّ الدستور بإطلاقه مصطلح (السيادي) على المنصب هاهنا لم يكن موفقاً البتة، وقد أقحم مصطلحاً في غير محلِّه. أمَّا الصفة الثانية المطلوبة في المنصب فهي صفة الأمنية، وتعني أنْ يُمثِّل المنصب مظهراً من مظاهر السلطة في بُعدها الأمنيِّ.

2- أنْ يكون المنصب رفيعاً. ومؤدَّى ذلك عدم الاكتفاء بشرط أو قيد السيادية أو الأمنية في المنصب، بل لا بدَّ أنْ يُشفع ذلك بكون المنصب السياديِّ أو الأمنيِّ رفيعاً، أي كبيراً، ومؤثراً ، وحسَّاساً.

وبإعمال وتطبيق الشرط أو القيد الأول (المنصب السيادي أو الأمني) يمكن – بحسب تقديري – الركون إلى شمول المناصب الآتية في حُكمه، ومن ثمَّ دخولها في الحظر الدستوريِّ للازدواج، وهي:

رئيس الجمهورية ونُوَّابه – رئيس مجلس الوزراء ونُوَّابه – الوزراء – مَنْ بدرجة وزير – رئيس المحكمة الاتحادية العليا وأعضاء المحكمة- رئيس مجلس القضاء الأعلى – رئيس محكمة التمييز الاتحادية- رئيس جهاز الادِّعاء العام- رئيس هيئة الإشراف القضائيِّ- السفراء – رؤساء الهيئات المستقلة (مع التنويه أنني أعني بالهيئات المستقلة هنا المعنى الدستوري الصرف، وليس المعنى الشائع في الساحة العراقية سياسياً وبرلمانياً وإعلامياً؛ كون الأخير فهماً مغلوطاً وملتبِساً)- رئيس جهاز المخابرات الوطنيّ – مستشار الأمن الوطني – رئيس أركان الجيش- قادة الفرق-.

ويبقى ثمة كلامٌ، وربما اختلافٌ ، بصدد السلطة التشريعية . وبدءاً يمكن القول إنَّ رئيس مجلس النواب، ونائبيه، وكذا رئيس مجلس الإتحاد ونُوَّابه – في حالة تأليف المجلس- ، يدخلون في التوصيف والحظر .ولكن قد يُستشكل بأمر النُّوَّاب، وكذلك القضاة. وبالنظر لكون النائب يمثِّل الشعبَ بأسره، وهو المسؤول الأول عن سنِّ التشريعات، وعن الرقابة على أداء الحكومة رئيساً ووزراء، إذاً يمكن القول بدخوله في التوصيف والحظر، بناءً على القيد الأول (السيادية) ؛ ذلك أنَّ أخطر عمليةٍ في أية دولةٍ هي سنُّ القوانين الملزمة للجميع، بل السيادة الداخلية عند إطلاقها تنصرف إلى السلطة التشريعية ؛ انسجاماً مع المفهوم الدستوري المتمثل بـ(سيادة الشعب)، والسلطة التشريعية هي ممثلة الشعب، في حين لا يُشترط في الوزير أن يكون كذلك، بل يُكتفى أنْ يمنحه البرلمان الثقة ليعمل.ثم كيف يمكن القول إنَّ منصب الوزير-أيَّ وزير- يمثل منصباً سيادياً، وإنَّ الذي يسنُّ التشريع الملزم للوزراء والحكومة برمَّـتها لا يمثل ذلك. ومن المعلوم أنَّ القضاء الدستوري في العراق لم تُعرض عليه قضايا مثل هذه حتى يحكم بها، أعني قضايا متعلقة في كون العضوية في مجلس النواب تدخل في توصيف المنصب السيادي أو لا ؟ بل أكثر من ذلك أنَّ القضية لم يتم تناولها من الناحية القانونية. وحيث إنَّ الأمر هكذا، فلا غضاضة من الإفادة من القضاء في الدول الأخرى التي عُرضت فيها، ولاسيما القضاء المصري، الذي سبقنا في ذلك. فلقد نعلم أنَّ ثمة جدلاً كبيراً قد نشب في مصر حول الموضوع ذاته، واختُلِفَ في كون المصري المزدوج الجنسية يمكن أن يتمتع بعضوية مجلس الشعب المصري (البرلمان) أو لا؟ .

وعلى الرغم من عدم وجود نصٍّ صريحٍ في الدستور المصريِّ، أو قانون الجنسية، أو قانون الانتخابات، يحظر ذلك على المصري ،لكننا وجدنا أنَّ محكمة القضاء الإداري قد ذهبت في بعض أحكامها ذلك المذهب ، وقضت بالحظر. ولقد تباينت الأحكام في القضاء المصري، حتى أفصحت المحكمة الإداريَّـة العليا بشكلٍ صريحٍ عن موقفها، وتبنَّت ذلك الرأي، وقضت بأنْ لا يكون المرشَّح لعضويَّـة مجلس الشعب مزدوج الجنسية. بل أكثر من ذلك قد حكمت في بعض أحكامها ببطلان عضوية من فاز فعلاً في الانتخابات وأصبح عضواً في مجلس الشعب. وقد استندت المحكمة في حكمها هذا إلى أدلةٍ عديدةٍ ، منها ما جاء في سياق الحكم :

((إن ازدواج الجنسية لايعني التشكيك في الولاء للوطن الأم، كما أنه لا يعني التنكُّر للوطن المكتسب، وتعدُّد الولاء على هذا النحو أمرٌ مُسلَّـمٌ به من الناحية القانونية بغض النظر عن الولاء الفعليِّ أو الحقيقيِّ .وإذا تعدد الولاء القانوني صار مشروعاً قانونياً معاملة أصحاب الجنسية المصرية الخالصة معاملة تختلف عن معاملة المصريين مزدوجي الجنسية في الحالات التي تستلزم ذلك، ومنها قصر الترشيح لعضوية مجلس الشعب على المصري صاحب الجنسية المصرية الخالصة، والمعاملة المختلفة هذه فضلاً عن مشروعيتها، ترفع بلا شك الحرج عن المصري مزدوج الجنسية عندما تحظر عليه شغل موقعٍ حساسٍ قد يجد نفسه فيه موزعاً بين تبني مصلحة مصر أو الانحياز إلى مصلحة الدولة الأخرى التي يحمل جنسيتها، وذلك في الأمور التي تتعارض فيها مصالح البلدين)) انتهى. ثم استدلت المحكمة بالقَسم الذي يؤدِّيه العضو أمام المجلس، وذهبت إلى أنَّ هذا القَسم يتعارض مع ولائه المزدوج، إذ إنه يكون قد أقسم يمين الإخلاص للدولة التي منحته الجنسية. وغير ذلك من الأدلة التي ساقتها المحكمة. وبالمحصِّلة فإنها (المحكمة) ترى أنَّ في ذلك مساساً بالمصلحة العامة للبلد أنْ يكون مزدوج الجنسية عضواً في المجلس التشريعيِّ .

أما فيما يتعلق بالقضاة، وما إذا كانوا يدخلون في الحظر الدستوري للازدواج بناءً على القيد الأول-السيادي- أو لا، فبالنظر لكون القاضي ينطق ويحكم باسم الشعب؛ فنعتقد أنَّ التوصيف والحظر يشمله أيضاً بناءً على هذا القيد؛ إذ الحكم القضائيُّ الباتُّ ملزمٌ للجميع أفراداً وسلطاتٍ، وهو من مظاهر بسط الدولة سلطانها على هؤلاء، بل أكثر من ذلك يمكن أنْ يمتَّد أثر هذا الحكم خارج إقليم الدولة لينفَّذ على وفق قواعد تنفيذ الأحكام الأجنبيَّـة. وإنَّ في ذلك لمظهراً جليَّاً من مظاهر السيادة.

أمَّا على وفق الشرط أو القيد الثاني، وهو قيد (المنصب الرفيع) ، فيمكن القول بإمكانية خروج عضو مجلس النواب من التوصيف، ومن ثم عدم شموله بالحظر؛ فإنَّ النائب وإنْ قلنا بدخوله في الحظر بمقتضى قيد ( المنصب السيادي)، لكنَّ قيد (المنصب الرفيع) يُخرجه، بيد أنه لا يُخرج رئيس مجلس النواب ولا نائبيه، إذ يبقون مشمولين بالحظر؛ بناءً على أنَّ مناصبهم رفيعةٌ. ولا أخال هذا الحكم يندفع بالقول إنَّ رئيس المجلس ونائبيه هم من حيث الأساس والمآل نواباً لا أكثر، وبالمحصِّلة لا يمكن تمييزهم بالحكم من سائر النُّوَّاب ؛ ذلك أنَّ قضية تمييز رئيس المجلس ونائبيه معروفةٌ للجميع، بل ومُقرَّةٌ من القانون، فهم يختلفون في الواقع عن سائر النواب من حيث الراتب والامتيازات ..الخ ، بل أكثر من ذلك، حتى لو لم يقر القانون هذا التمييز فإنه أضحى عرفاً دستورياً مُقَرّاً، وبات رئيس المجلس يمثل أحد أضلاع المثلث العُرفي المسمَّى (الرئاسات الثلاث )، ممَّا لا يحتاج إلى إفاضةٍ أو مزيد بيانٍ.

وبالاتجاه ذاته يمكن أنْ نستشف أيضاً أنَّ القيد الثاني (المنصب الرفيع) يُخرج القضاة من الحظر الدستوريِّ، على الرغم من قولنا السالف بدخولهم فيه بمقتضى القيد الأول (السيادية)، بيد أنه لا يُخرج منصب رئيس المحكمة الاتحادية العليا وأعضاء المحكمة، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس محكمة التمييز الاتحادية، ورئيس جهاز الادِّعاء العام، ورئيس هيئة الإشراف القضائيِّ، إذ يبقون مشمولين بالحظر .

وممِّا تقدَّم يمكن الخلوص إلى أنَّ الشرطين أو القيدين المتقدمين ينبغي أنْ يجتمعا معاً؛ كي يتحقَّق الحظر الدستوريُّ، لا أنْ يتحقَّق أحدهما دون الآخر .

مقترحنا لتعديل النصِّ وتوصيف المنصب السياديِّ والأمنيِّ:

وتأسيساً على ما قد سلف، وإسهاماً منَّا في حلِّ وعلاج هذه القضيَّـة المهمَّة – أي توصيف المنصب السياديِّ والأمنيِّ الرفيع-؛ فإننا نطالب بضرورة أنْ يتمَّ توصيف المناصب السيادية أو الأمنية الرفيعة، وتحديدها بشكلٍ قطعيٍّ. ووفاقاً لما تقدَّم نقترح أنْ يتمَّ تعديل البند (رابعاً) من المادة التاسعة من قانون الجنسية العراقية لعام 2006 النافذ، ليكون على وفق الآتي، واضعين التعديل المقترح بين يدي المعنيِّـين، رئاسةً وحكومةً وبرلماناً :

(( أـ لا يجوز للعراقيِّ الذي يحمل جنسيةً أجنبيةً أنْ يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً، إلاَّ إذا تخلَّى عن تلك الجنسية على وفق الآليات المذكورة في هذا القانون.

ب ـ يُعدُّ منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً كلٌّ من المناصب الآتية :

1ـ رئيس الجمهورية ونُوَّابه.

2ـ رئيس مجلس النُّوَّاب ورئيس مجلس الاتحاد ونُوَّابهم.

3ـ رئيس مجلس الوزراء، وأعضاء المجلس- الوزراء -.

4ـ مَنْ بدرجة وزير.

5ـ السفراء.

6ـ رئيس المحكمة الاتحادية العليا (الدستورية)، وأعضاء المحكمة.

7_ رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس محكمة التمييز الاتحادية، ورئيس جهاز الادِّعاء العام، ورئيس هيئة الإشراف القضائيِّ.

8- رئيس مجلس الدولة.

9ـ رؤساء الهيئات المستقلة.

10- رئيس جهاز المخابرات الوطني .

11ـ مستشار الأمن الوطني.

12- رئيس أركان الجيش، وقادة الفرق)).

إنَّ هذا التعديل يُحقِّق ثمراتٍ ثلاثاً في آنٍ واحدٍ، هي :

1- إنَّه يُحدِّدُ المناصب السيادية والأمنيَّة بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، لا يدعُ مجالاً للاجتهاد والاختلاف في المستقبل.

2- إنَّه يجعل النصَّين، الدستوريَّ والقانونيَّ، أكثر دقةً ؛ ذلك أننا حذفنا عبارة (مكتسبة) الواردة في سياقهما، التي تقول :”وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً التخلِّي عن أية جنسيةٍ أخرى مكتسبةٍ”؛ إذ إنَّ الجنسية الأخرى “غير العراقية” قد تكون مكتسَبةً، وقد تكون أصليةً، وليس بالضرورة أنْ تكون الجنسية الأجنبية مكتسبةً دائماً، فيكون النصُّ الـمُعدَّل قد تضمَّن الحالتين معاً، وهو الأوفق.

3-إنَّه يتضمَّن الإشارة أيضاً إلى الآليات القانونية الواجب اتباعها من قبل الــمُكلَّف المرشَّح للمنصب السيادي أو الأمني، والمسكوت عنها أيضاً في الدستور والقانون. وتلك الآليات وما بعدها ستكون محوراً لحديثنا في الحلقة الثانية من هذه المقالة إنْ شاء الله.

يتبع ..

أحدث المقالات

أحدث المقالات