تتجدد التساؤلات حول جوهر السلطة ومعناها في ادارة الدولة وحول من يستحق أن يقود البلاد في فترات الأزمات والتحديات امام التهديد بالانقسامات التي يدفع بها المحيط الإقليمي رغم توفر كل الإمكانيات البشرية والمادية التي يتمتع بها الوطن ولجميع أهله.
المشهد السياسي في العراق الان لا تحركه المبادئ ولا البرامج بل صراع الطوائف والمصالح والنفوذ الخارجية. وتبدو النخب من القيادات السياسية، في معظمها، وكأنها تمثل نفسها لا مكوناتها الاجتماعية، بدليل أن غالبية من وصلوا إلى المناصب العليا أصبحوا من أصحاب الملايين، حتى لو كانوا بالأمس القريب شخصيات غير معروفة وليس لديهم تاريخ سياسي .
للأسف تحولت السلطة بعد عام 2003 إلى غنيمة شخصية لكثير من السياسيين في البلد وانكشفت لاحقاً الشعارات الطائفية والقومية التي كانت تُرفع باعتبارها مظلة للدفاع عن الحقوق، فإذا بها مجرد وسيلة للوصول إلى المواقع حيث ينشغل الكثير من السياسيون بتوسيع أرصدتهم لشراء العقارات وتأمين مستقبل عائلاتهم بعيدًا عن الوطن الذي يزعمون تمثيله. من هنا، فإن السؤال الجوهري لم يعد: “من يمثل من؟” بل: “من يخدم من؟” فالساسة في العراق لا يخدمون إلا أنفسهم، مهما لبسوا من أثواب الدفاع عن المذهب أو القومية.
الطائفية كأداة لا كعقيدة
تنقسم القوى السياسية في العراق إلى ثلاث كتل كبرى: أحزاب شيعية تستند إلى سردية المظلومية، وأحزاب سنية تحاول استعادة نفوذ ما قبل 2003، وأحزاب كردية تناضل من أجل تثبيت مكاسبهاحالياً وتحقيق حلم الدولة المستقلة لاحقاً. لكن هذه الانقسامات لا تعبر عن قناعات راسخة بقدر ما تكشف عن أدوات تُستخدم لحصد المكاسب وتثبيت المواقع. فكم من سياسي شيعي استخدم خطاب المرجعية والمظلومية ليصل إلى السلطة، ثم أغلق بابه ؟ وكم من سياسي سني تحدث باسم المحافظات المنكوبة، لكنه استثمر ميزانياتها في شركاته الخاصة؟ وكم من زعيم كردي نادى بالفيدرالية والديمقراطية، لكنه حكم بالإقطاع وتوارث الزعامة مع أبنائه وأشقائه؟
إن الطائفية ليست عقيدة، بل تكتيك، والولاء القومي ليس هدفًا، بل وسيلة. والواقع الذي رأيناه أن السياسي العراقي يمثل طائفته بالشعارات فقط ويجاهد في سبيل حسابه البنكي، ومشروعه الوحيد هو البقاء في السلطة. وهذا ما يفسر التشبث بالمناصب رغم الفشل الذريع، والعنف اللفظي والجسدي ضد الخصوم، واختزال الوطن في دائرة صغيرة من المصالح الخاصة.
منطق السلطة لا الدولة
منذ 2003، تسلمت القوى الشيعية مقاليد الحكم للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر. لكن هذا التحول لم يُقابل بمشروع حقيقي لبناء دولة، بل بانكفاء على الذات، وسلوك معارض من بعض أحزابها رغم التمكين، وذهنية لا تنموية. لم تكن السلطة وسيلة لبناء الوطن، بل غنيمة توزع بين المليشيات والأحزاب. مقابل ذلك، تعلمت القيادات السنية والكردية بسرعة كيف تلعب لعبة المعارضة والمشاركة في آنٍ واحد، ففاوضت في الخارج، واستفادت من الداخل، وأتقنت التلويح بالانسحاب والانفصال لتحقيق مكاسب آنية.
القيادة تحولت إلى صراع نفوذ، والمعارضة إلى منصة للتفاوض، والمواطن إلى مجرد ورقة في هذا الصراع. وبدل أن يكون في العراق مشروع دولة يتجاوز الهويات الفرعية، أصبح لكل مكون مشروعه الخاص، ولكل حزب حسابه الخاص، ولكل زعيم مليشيته الخاصة.
كسر الثنائية وإعادة تعريف القيادة
أمريكا لن تعمل لبناء دولة ديمقراطية عصرية لنا وإن ما يحتاجه العراق اليوم ليس مجرد انتخابات جديدة، بل ثورة مفاهيم. فالمشكلة ليست في من يحكم، بل في كيف يُحكم. والقيادة ليست امتيازًا مذهبيًا أو عرقيًا، بل مسؤولية وطنية. ومن يملك مشروع الدولة – أي دولة المواطنة والمؤسسات والعدالة – هو من يحق له أن يقود، أياً كان مذهبه أو قوميته. أما من لا يملك سوى الشعارات، فمكانه الطبيعي في مقاعد المعارضة، حتى يتعلم فن الإدارة قبل أن يطالب بالقيادة.
لا يمكن بناء الدولة بعقلية “المظلوم المنتصر” أو “الضحية المتحفزة”. ولا يمكن للسلطة أن تكون مشروعًا فرديًا أو عشائريًا أو طائفيًا. بل يجب أن تعود الدولة إلى أهلها ، لا إلى أمراء الحرب وزعماء الكتل.
ومع اقتراب الانتخابات، تبقى الكرة في ملعب الناخبين العراقيين : هل يستمرون في إعادة تدوير الوجوه نفسها التي خدعتهم مرارًا؟ أم تبدأ رحلة التغيير الحقيقي، عبر رفض من استغل الطائفة والقومية ليبني ثروته والتحول إلى انتخاب من يملك رؤية لبناء وطن من الكفاءات الوطنية والمخلصين.
إن من يملك مقومات الدولة هو فقط من يحق له أن يقودها .