23 ديسمبر، 2024 8:12 ص

اخيرا وصل الى السماء

اخيرا وصل الى السماء

الذين يركبون الآن أعتاب الخمسين من أعمارهم عاشوا واحدا من اكثر قرون الأرض جنوناً وخصباً وسريالية وشهوة ومفارقات .
لقد كان القرن العشرين ، القرن الماسي لكل ما مضى وسيأتي ، فهل يصدق أحدكم ، أن القرون القادمة ستنتج لنا مارلين مورنو أخرى ، وسلفادور دالي آخر ، وفيروز أخرى ، وحنجرة مثل تلك التي حملتها الأسطورية أم كلثوم أو راوياً مدهشا مثل الذي فعله غابريل ماركيز ، ولكنه وللمفارقة قد تنجب لنا جنرالا  مثل موسليني الذي يقول : لا أشهى من جسد وطني غيور معلق على مقصلة بالمقلوب.

ولن تنجب العصور القادمات مراهقة مثل مراهقة أبناء القرن العشرين ،ت لك التي عشقت عيون برجيت باردو وزبيدة ثروة واغاني عبد الحليم حافظ.

في سبعينات القرن الماضي كان حضور الصحافة المصرية قويا ، وكنا نجلبها الى مدرستنا لقضاء الوقت في متعة قراءتها ، ولنكون قريبين من أجفان من نحبهم من ممثلي السينما ، فكنا نجلب صحف الاهرام والجمهورية ، ومجلات الهلال وكواكب .

فبسبب السينما وهذه الصحف والمجلات صرنا نعرف طبيعة المجتمع المصري اكثر من أي مجتمع اخر ، حتى أن احد المعلمين قال مرة :انه يعرف عادات المصريين الاجتماعية اكثر من عادات اهل الموصل وتكريت.

قلت له : هذا لأنك دفعت بدل نقدي ولم تخدم في الجيش ، ولو خدمت لعرفت تفاصيل حياة الناس في كل مدن العراق.

وهكذا يصبح ورق الجرائد مثل ورق المناديل المعطرة بأحمر شفاه للقاء غرامي حار نتتبع فيها ما نحب ان نعرفه عن أولئك الذين يصنعون متعة أرق ليلنا الطويل ونحن نسمع اغانيهم أو نشاهد فتنة الجسد في مرايا صدور الممثلات ، فأحدهم كتب عن أغراء  عيون زبيدة ثروة فيه  قوله : عيونها والفقر توأم  ، ولهذا خلق الله العشب الاخضر ليجعل من عينها سجادة خضراء اتمدد فيه معها ولكن بأحلامي فقط.

ربما عبد الحليم وأغانيه وحدها من توحد الرغبة فيها الى انتظار الجريدة والمجلة القادمة من مصر. وربما افلامه بالأسود والابيض مع زبيدة ثروت وهند رستم وبرلنتي عبد الحميد ونادية لطفي ومريم فخر الدين وصباح وكريمة مختار وشادية في معبودة الجماهير مثلت شيئا مهما من حنين الذاكرة الى ايام الصبا والمراهقة وشباب رسائل الحب الخجولة ، عندما كنا نحفظ تلك الاغاني على ظهر قلب ، ويوم ازدادت وطأة المرض على عبد الحليم جراء مرض البلهازيا المزمن الذي لازمه منذ طفولته كنا قلقين ونتابع اخبار علاجه في لندن والقاهرة وبيروت ، لكننا بسبب حاجتنا الروحية الدائمة لصوت العندليب نرفض ان نصدق أن عبد الحليم سيموت بعدما لم يصدق الكثير أن الصوت الملكي الساحر لأم كلثوم قد مات ايضاً. 

ذات يوم نقل المذياع خبر موته ، حزن محبيه في ادارتنا وغير المصدقين بموته بسبب ما نقراه عن اشاعات في الصحف المصرية عن اخبار مرضه والبعض يعدها مبالغ فيها .

لكن مانشيت جريدة الجمهورية المصرية الذي وصل الى مدرستنا حسم كل تلك التساؤلات وقرأه الجميع وهو يحمل عبارة رثاء واحدة من أجل عبد الحليم  ( أخيرا وصل الى السماء ) .