شهد العراق منذ عام 2003 انعطافة كبيرة في شكل الاعلام ومضمونه . لم تشهدها فترة من فتراته عبر التاريخ . وتركز المشهد الاعلامي العراقي في تعدد وسائل الاعلام ووفرتها ، حتى بلغت بعد ذلك العام صدور مايقارب 200 صحيفة ، ومجلة ، وافتتاح قنوات فضائية عديدة بتعدد الطيف العراقي واكثر . والذي يهمنا في هذا المقال . ان هذا التحول استقطب اناس ، عملت في مجال الاعلام ، دون ضوابط ، وتخصص . حتى وصل الامر الى قيام صاحب محل لبيع الحلويات بأصدار صحيفة ، وينصب نفسه رئيسا للتحرير ، ويكتب افتتاحية للصحيفة . او تجد بائع خضار ، وقد عينته احدى الفضائيات ، مراسلا صحيفا ، ومديرا لمكتبها في احدى المدن . وشاكلة هؤلاء لايعدون ، ولايحصون ، هيمنوا على معظم المشهد الاعلامي العراقي ، بل وتزعموه . خاصة بعد هجرة الاقلام الكبيرة من الصحفيين ، والمثقفين عن البلد ، وانزياح البعض منهم عن المهنة على وفق القاعدة الاقتصادية ” العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة ” . بفعل المزايدات والولاءات ، التي كانت ترشح ، وتعين الفرد في احدى وسائل الاعلام المملوكة للحزب ، والمنظمة ، والفئة .
ومن هنا ، برزت ظاهرة خطيرة في المشهد الاعلامي العراقي ، الا وهي توطين قيم جديدة ، وشاذة عن عمل الاعلام ومهنيته . فظهرت سلوكيات ، تعكس حالة غريبة بعيدة عن اسس وقيم واخلاقيات المهنة الصحفية . وانتشرت بشكل سرطاني كبير ، حتى حجبت الرؤية عن المسار الصحيح .
ووفقا لذلك وجدت فئة جديدة يطلق عليهم صحفيين بعد عام 2003 ( بدايتها كانت مطلع التسعينيات في صحف عدي )، عملوا بالمهنة لسد شواغر كثيرة في الصحف والفضائيات استقطبتهم وسائل الاعلام دون وضع حد ادنى من شروط العمل المتفق عليه . وهؤلاء في غفلة اوجهل فرضوا قيمهم على صاحبة الجلالة . فكانت اشبه بمعاول هدم لكل ماهو اصيل ، من قيم ، وتقاليد مهنية ، كانت راسخة . وبناء مسخ اعلامي على انقاض صروح الصحافة العراقية العتيدة . فخرجت الصحف ، وبعد ذلك الفضايئات ، بمواضيع لاتحمل العرف الصحفي والوطني ، وانما يتحكم فيها الجانب المذهبي ، والعرقي ، والطائفي . بعيدا عن شيء اسمه الوطن . فكانت اوضاع البلد ، تزداد سوءا ، جراء الحروب الصحفية الطائفية . وفي الوقت نفسه ، دخل على خط الصحافة ما يسمى بكتاب الرأي ، والمقالات ، لايمتون بصلة لصورة المثقف والصحفي ، والمتخصص . مجرد اناس تسنموا مناصب حزبية ، وسوادهم الاعظم من الذين لايميزوا بين الغث ، والسمين . ولايفرقوا بين العمود الصحفي ، والمقالة الصحفية او بين الفنون الصحفية ، تتصدر كتاباتهم ، صفحات الصحف ، وتعلو صيحاتهم في الفضائيات . اطلقوا هؤلاء على انفسهم ، محللين في الشأن العراقي ، اوخبراء سياسيين ، اواقتصاديين .
ولم يقف الحال عند ذلك ، وانما الاسوء يزداد بتقادم الايام الى وقتنا الحاضر . من هؤلاء فرضوا انفسهم على وسائل الاعلام ، بصفات ، والقاب عديدة . نجدهم يخضون معارك اعلامية تتهم جهة ، وتبرأ جهة اخرى لقاء اثمان تدفع لهم . وتجدهم مع من يدفع اكثر . ومع هذا الصخب الاعلامي المسخ ، يساهم فيه من الذين اطلقوا على انفسهم مراسلين صحفيين . نجد الاعلبية منهم ، وخاصة صحفيو الصحف ، ينقلون الرسائل الاعلامية على علاتها كما يقال ، دون تمحيص ، اوتفكير . وشهدت بنفسي صور هزلية لعمل هؤلاء ممن يطلق عليهم صحفيين . لايعرفون حتى من كتابة الخبر الصحفي ، وبعيدين كل البعد عن الاعلام الحقيقي والجاد بمسافات فلكية. وهؤلاء تراهم يفتقرون للمهنية ، والحس الصحفي ، والرؤية الصحفية تجاه الحدث . يقوم بمهام بعضهم زملاء نيابة عنهم في تحرير الاخبار ، والتقارير ، لقاء عمولات . وتكمن الطامة الكبرى حين يمنحون هوية نقابية ( اكثر من 10000 هوية منحتها نقابة الصحفيين العراقيين لاشخاص يعملون في وسائل الاعلام بعضهم غير اعلاميين ولايمارسون مهنة الصحافة لا من قريب او بعيد) ، او تمنح هوية لهم من قبل وسيلة اعلامية ليستغلوها في تحقيق مأرب اخرى ، تدر عليهم اموالا . وسمعت عن حالات من الابتزاز ، يقوم بها بعض مايسمون بالاعلاميين ، في اجراء لقاءات صحفية مع شخصيات ، لقاء اموال ، مما انعكس سلبا على مهنة الاعلام وسمعته ، لدى اغلب الناس ، حتى كان الصحفي الحقيقي يتفاجأ بمقولة تطرق مسامعه بحدة اثناء كل زيارة لمؤسسة معينة : ” لانستطيع دفع اموال ” حين يبغي هذا الصحفي من اجراء مقابلة مع شخصية معينة . وهذا الموقف الصادم عانى منه الكثير من الصحفيين . واتذكر موقف طريف ومبكي في الوقت نفسه حين دخل مايسمى بأعلامي الى احد الفنادق الفاخرة في احدى المدن ويحمل ” لوكه ” لاحدى الفضائيات المشهورة محليا والتي اقالته جراء اعماله هذه . فاجرى هذا الشخص اللقاء دون كاميرا . !! وقبض اموال لقاء ذلك . وهذا لم يأتي من فراغ ، فكانت مكاتب للاعلان التي ظهرت في بغداد ، وفي جميع المحافظات في منتصف تسعينيات القرن الماضي اسست اساس الفوضى الاعلامية ، يجوب مندوبيها ، القرى ، والارياف ، وفي الاقضية ، والنواحي ، بحثا عن رؤساء العشائر ، وشيوخها الذين يستلمون منحا مالية مجزية من صدام حسين . فوجدت تلك المكاتب مغنما كبيرا لابتزاز هؤلاء الشيوخ ، تحت مظلة حبهم للقائد الضرورة ، وواجب عليهم نشر تهنئة ، وبرقيات حب الرئيس في المناسبات الوطنية . وهؤلاء اطلقوا على انفسهم صحفيون . ويدعون انهم يعملون بصحف معينة . ومن هنا اقترن هذا العمل الاعلاني الفوضوي بالعمل الاعلامي .
ورسخت عبر ذلك بأذهان الجميع صورة الصحفي الذي يقبض ثمنا جراء عمله من مؤسسات او اشخاص. وزادت تلك الصورة قتامة بعد عام 2003 بظهور اناس يمتلكون كاميرات ويتحدثون بأسم فضائية او وسيلة اعلامية ويبتزون اصحاب المشاريع والدوائر الحكومية والقطاع الخاص . وعلى الرغم من انحسار هذا العمل في الوقت الراهن ، الا ان صورة الصحفي ، ظلت في اذهان افراد المجتمع ، مشوشة ومربكة .
لذا ندعو نقابة الصحفيين العراقيين ، والمنظمات الصحفية ، الى الكشف عن هؤلاء ، وتطهير الوسط الصحفي منهم . والزام النقابة ، وكل وسيلة اعلامية الى محاسبة هؤلاء ، ومعاقبتهم ، وتفعيل الشكاوى عليهم . وتحذير مؤسسات الدولة ، والقطاع الخاص ، من اجل سمعة الصحفي ، والصحافة العراقية .