الحياة مجموعة من الثنائيات المتضادة المتعاكسة المكملة لبعضها، وهي ما وصفه الفلاسفة الماديين بالديالكتيك، أي التناقض والتضاد المنتج. والحقيقة أن كل شيء في الكون يقع في نوعين، وهذه اليوم بديهية لكنّ كثيرين، وبينهم مفكرون وعلماء وكتّاب ومشرّعون وصنّاع قرار، يجهلون أو يتجاهلون، ينسون أو يتناسون، يغفلون أو يتغافلون عن حقيقتها.
بيولوجياً، تقوم ثنائية الحياة على الأنثى والذكر، وعلى هامش هذه الثنائية المنتجة التي تصنع التكاثر، هناك تنويع يقوم على جنوح الطبيعة أحياناً والذي ينتج عنه الجنس الثالث غير المنتج، لكنه واقع يجب أن نقبله دون تعصب ديني أو قبلي رث. هناك أيضاً، صناعة الحياة البدائية الناتجة عن تكاثر انشطاري، وهذا أيضا منتج حياتي لا يخضع لقانون الذكر والأنثى الأوسع انتشاراً، والأرقى وجودياً.
فيزيائياً، تقوم الحياة على كوكب الأرض على تعاقب الليل والنهار، وما برح هذا يجري منذ ملايين السنين، ولم يستطع أيّ أحد حتى الآن أن يحيل تاريخ الكوكب إلى ما قبل تعاقب الليل والنهار. هذه الثنائية الفيزيائية هي التي تصنع الزمن، وهي التي تشارك في صنع الحياة، من خلال شروق أو غروب الشمس، فقد تكيفت الكائنات كلها وفق هذه الثنائية، ولم تغفل ديانات التوحيد، والديانات الأخرى التي سبقتها وما زالت واسعة الانتشار عن تعاقب الليل والنهار، واختلاف النور والظلمة. وعلى هامش الليل والنهار، هناك الشفق والغسق، والذي يعرفه القاموس المحيط بالقول: “تشير لفظة الشفق إلى الحُمرة في الأفق منذ الغروب وحتى دخول وقت العشاء أو قريب من هذا الوقت، وأما الغسق؛ فإنه ظلمة أول الليل“. وهذا النوع من النور المحمر المتلاشي هو نظير الجنس الثالث في ثنائية الذكر والأنثى، ولهذا نراه لا يستمر بل يختفي سريعاً، إنّه مكون قصير العمر، لكنه موجود لا تقوم ثنائية النور والظلمة، النهار والليل دونه قط.
وجودياً، تقوم ثنائية الوجود على حقيقتي الحياة والموت، فكل حياة تنتهي إلى موت، وكل موت لا يكون دون حياة تمهد له، ومن خلال كيمياء الأشياء، تفضي عوامل الحياة، وهي تضعف وتندثر وتتلاشى، إلى مساحة الموت. ثنائية الموت والحياة، تشمل كل شيء، وتبدأ وتنتهي في الماء وفي التراب، فالتراب أذا مات صار رملا “رماداً” لا يمكن أن تعود إليه الحياة، وهكذا فإنّ التصحر الذي يجتاح كوكبنا الأزرق، هو مؤشر على تسارع وتيرة موت الأرض وفنائها. الحياة وجود، والموت عدم، والكون يتكاثر ويستمر وفق هذه الثنائية. جغرافياً، تتحقق ثنائية الماء والتراب بوضوح في المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار، حيث تتجاور مساحة التراب والصخر مع مساحة الماء، وحيثما تنتهي مساحة الماء تبدأ مساحة الأرض (التراب والمتحول منه إلى صخر جلمود أو إلى رمال عقيمة ميتة). الماء مرتع الحياة وصانعها، والتراب مرتع الحياة وصانعها. والثنائية تتحقق بوجودهما معا، كما الذكر والأنثى والليل والنهار. لكن على هامش هذه الثنائية توجد منطقة الساحل، شواطئ الأنهار وسواحل المحيطات والبحور والبحيرات، هذه المنطقة هي مثل الشفق والغسق، مثل الجنس الثالث، مثل الاحتضار،منطقة حائرة، قصيرة في العادة، لكنها ملازمة للماء والبر لا تفارقهما، وفيها مساحة للوجود علينا أن نقبلها فهي مختلفة.
تكوينياً، تنقسم الحياة لدى جميع الكائنات إلى يقظة وإلى نوم، وهي ثنائية الوجود اليومي، لا يمكن إسقاط أحد طرفيها، فالحرمان من النوم يفضي إلى الموت، وهذا ما يفعله الطغاة حيث يمنع جلادوهم السجناء عن النوم، ومثله يحدث في المعارك المتطاولة، فيموت الجنود أو يؤسرون بسبب نومهم الذي غلب عليهم، بل غلب على رغبتهم في البقاء على قيد الحياة إزاء أعدائهم، فضعفوا وناموا حتى قتلوا أو أسروا. وكلما قلت ساعات نوم الانسان، قصر عمره، وتضاءلت قدراته العقلية، وضعفت طاقته البدنية، وظهرت التغضنات على وجهه. النوم حياة، كما اليقظة حياة. بين المنطقتين، (كالعادة)، توجد منطقة رمادية، هي ساحل النوم، وساحل اليقظة، وتدعى بالعربية الوسن، ويبلغها الانسان بشكل طبيعي في اللحظات التي ينتقل فيها من اليقظة إلى النوم، وبلغة الندمان تسمى السكر، وبلغة العشاق تسمى اللذة، وبلغة الطب تسمى التخدير والخدر. هذه المنطقة الرمادية، أجمل من النوم، وأجمل من اليقظة، لكنها قصيرة لا تستمر. فإذا استمرت، صارت مدمّرة تقضي على الانسان وتحوله إلى مدمن كحول أو مدمن مخدرات أو مدمن لذة عاطل عن العمل تنهكه رحلة البحث عن النشوة، أنه سيصبح باحث مزمنعن لذة الخدر وهذا عين الانهيار. الأديان وبعض الأعراف المجتمعية والقبلية البالية تحاول أن تمنع أو تحرّم هذه المنطقة القصيرة، وهي مساع مصيرها الخيبة، فهذه المنطقة تتحدى كل الممنوعات والقوانين.
رقمياً، هناك ثنائية الألفية الثالثة (وهي تسمية مؤقتة حتى يستقر وصف هذه المرحلة) هي (أونلاين) و(أوفلاين). فالإنسان اليوم (موجود) بالنسبة للعالم الافتراضي، ما دام هو متصل بالأنترنت وبمنصات التراسل الالكتروني ومنصات التواصل والاتصال ومنصات الذكاء الاصطناعي. الناس يعرفون إنكَ متصل بالنت حين ينظرون في هواتفهم إلى منصة واتساب، ويرون حسابكَمتصلاً، أو حين يراسلونك على الميل، ويعرفون أن بوسعك أن تجيبهم خلال ثوانٍ لأنّ الميل موجود على هاتفك المحمول، ويعلمك حال وصول رسالة لك، وبشكل أكثر تخصصاً هم يرون حضورك على منصات فيسبوك، أكس، أنستغرام، تيكتوك، تيلغرام، (ماستودن mastodon)، وما شابه من منصات “الإعلام الاشتراكي” (وهو الوصف الأدق من عبارة التواصل الاجتماعي المشتبهة). إزاء هذا الحضور الافتراضي، حين تكون (أوف لاين) فأنت ببساطة غير موجود!
ثنائيات المشاعر، ومنها الفرح والحزن، الضحك والبكاء، الحب والكراهية، وهي مشاعر وعواطف ينتج عنها أفعال توجز سلوكنا في لحظة معينة. ولكن بين كل ثنائية من هذه المشاعر توجد منطقة رمادية، تمتد لوقت قصير نسبياً، لكنها يمكن أن تنتج شيئا يختلف عن طرفي الثنائية، فبين الفرح والحزن، مسافة قصيرة، يبكي فيها الانسان لشدة الفرح، أو يضحك مقهقهاً بصوت مجلجل لشدة حزنه، إنها المنطقة الرمادية التي ترتبك فيها الثنائية. ذات مرة شاهدت فيديو قصير من وقائع “الربيع العربي” المشبوه في سوريا عام 2014، كان المشهد لأبٍ يحمل رأس ولده الذبيح وقد ضمّ الرأس تحت ذراعه إلى صدره، وهو يتفقد مذهولاً مكان الجريمة، وينظر باستغراب أبله إلى جسد ولده المسجى دون رأس. إنها لحظة فارقة بين ثنائية الحياة والموت، بين علاقة الأب بولده، لحظة رمادية ارتبكت فيها حياة الأب المسكين فبات يجول تائهاً في مجاهيل نفسه.
ولابد أن تستوقفنا ثنائية الحرب والسلام: الحرب تمثل الصراع والعنف، بينما السلام يعني الهدوء والتعايش دون صراعات. يتعايش العالم مع هذه الثنائية، إذ أن الحرب تمثل لحظات من الكارثة والدمار، في حين يمثلالسلام طاقة الأمل المرتجى التي يسعى الناس إليها بلا هوادة، لكن بين الحالتين هناك مساحة وزمن يتصف بأنهّ لا حرب ولا سلم، وقد عاشها العالم نحو 45 عاماً، في سنوات الحرب الباردة بين الكتلة الشيوعية والكتلة الرأسمالية. إنها منطقة رمادية قسّمت وتقسم كثير من شعوب العالم، وما زالت هذه المنطقة الرمادية قائمة في بلدان مثل الصين وجيرانها، روسيا الاتحادية وجمهورياتها السابقة وأوروبا، كوريا الشمالية وفيتنام ومن حولها من دول.
وما دمنا نتحدث في السياسة، فلا بد أن نمر بثنائية اليمين واليسار، وهي ثنائية قائمة منذ فجر التاريخ ولكن بتسميات وتواصيف متفاوتة، تناسب لغات تلكم العصور. فاليمين كان دائماً هو الحاكم في قصره والكهنة في معبدهم ومن يلف بهذه الثنائية من بطانة المستفيدين المتنفذين، أما اليسار فكان دائماً الفقراء والمعدمين والعبيد والنساء (في بعض بلدان الشرق العربي والإسلامي حالياً وفي الغرب مترامي الأطراف والحضارات سابقاً) والطبقات الاجتماعية المتدنية في شبه القارة الهندية والصين واليابان ومن حولها من بلدان. ويقف مع اليمين قادة الجيوش وضباطها، وحتى النخبة من مقاتليها إبان الحروب (حروب إسبارطه، الحروب الهيلينية، حروب الوردتين، حروب المائة سنة، حروب الهكسوس، حروب الفراعنة، حروب حضارات وادي الرافدين، حروب الشعوب الصفراء الغامضة المغرقة في الدم والمآسي، حروب قبائل الترك والسلاجقة والبويهيين، وغيرها كثير من حروب شعوب الانكا وشعوب الكِلتوغيرها).
أما اليسار فيصطف معه الشغيلة والطلبة والمتدربون وصغار الجند وصغار الفلاحين وأصحاب البسطياتوالجنابر عبر العالم، والعمالة المهاجرة في بلدان البترودولار السني الخليجي والإفريقي والشمال إفريقي، ورقيق إمارات الاقطاع وأقنان الأرض (سابقاً)، والجواري والحريم (والخصيان والغلمان سابقاً في عموم الشرق وحاليا في الجمهوريات السقيمة والممالك والامارات المتمسكة بالإسلام السياسي)، وينظّر لكل هؤلاء مفكرون وعلماء وفنانون مختلفون غير متشابهين، وخارجين عن اجماع القطيع، وهم من ندعوهم اليوم بعناصر التنوع الاجتماعي والاثني والسياسي.
بين اليسار واليمين، تمتد مساحة شاسعة، لا بيضاء ولا سوداء، بل رمادية شبه محايدة، وهي التي ما برحت تتسع، ويتراكم فيها الناس الذين يبدلون مواقفهم السياسية بتغير مصالحهم، وهذه ليست مثلبة، فالناس تحركهم مصالحهم، وليس عقائد نظرية فلسفية مثالية محنطة. لا توجد عقيدة مقدسة إلا في تصورات الذين تجمّد عندهم الزمن، كل العالم يعيش وفق براغماتية ماكيافلية واقعية لا تفرض على الناس طقوس تقديس وتعظيم لمقدس ميتافيزيقي افتراضي، إلا بمقدار ما تتطلبه الموالاة التي يراد من الجماهير اظهارها للحاكم والرب المقدس. الناس في الألفية الثالثة يفضلون غالباً أن لا يعلنوا أو يتبنوا مواقف سياسية واضحة نهائية، كي تبقى المنطقة الرمادية مفتوحة أمامهم، وتبقى أشرعة سفائن عودتهم عن المواقف السياسية مشرعة تخفق فيها الرياح بانتظار رفع مراسيها لتبحر بهم إلى آفاق سعيدة.
وما دمنا في مورد إعلان المواقف والتحزب والانحياز والنضال الافتراضي والكفاح الرقمي والتصدي لأعداء(الأمة والشعوب والفقراء والبروليتاريا والمعدمين…الخ)، فلا مناص أن نمر على ثنائية المعلن والمستتر، فأغلب المناضلين الافتراضيين، يفضلون أن لا يعلنوا شخصياتهم، ليبقوا مستترين خلف أسماء مستعارة وخلف صور زهور ملونة أو مناظر كطبيعية أو رسوم رمزية، وهذا بحد ذاته سيتيح لهم العودة عن نضالهم الافتراضي بسهولة في حال تغير مهب رياح مصالحهم، أو طالتهم عواصف رياح التغيير غير المنتظرة. وبين المعلن والمستتر مساحة رمادية يمكن أن نسميها بلا تردد “انتهازية”، قد يصفها الناس بمختلف الصفات، لكنها تبقى معرّفة بصفة لا لبس فيها.