-1-
يصعب أنْ تجد من لا يخترق الضوابط والقوانين …
إنّ الاختراق عملية شائعة في العراق ، لا من قبل المواطنين فحسب ، بل من قبل كثير من المسؤولين أنفسهم ..!!
وإنّ اختراق المسؤولين للضوابط هو الذي يقود الى أنْ يخترقه الأخرون..!!
فالمسؤول هو القدوة وحين يقع في شَرَك الاختراق يشجعُ الآخرين على الوقوع فيه ..!!
-2-
والسؤال الآن :
وماذا عن القَسَم الذي يؤديه كبار المسؤولين للحفاظ على القوانين والموازين ؟
انهم يحنثون ..!!
والحنث باليمين ليس مما يتورع عنه أكثرهم – للاسف الشديد – ..!!
انهم ينهارون أمام مصالحهم الذاتية والفئوية والطائفية والقومية والعشائرية والمناطقية …
وهنا يكمن الداء …
-3-
واذا كان اليمين لا يمنع من الاختراق فما الذي يمنع منه اذن ؟
هناك وسيلة فاعلة لمنع الاختراق وهي: امتناع من يُطلب منهم المسؤولون الكبار مخالفة القوانين والضوابط عن تنفيذ ما يُطلب منهم، وبالتالي تراوح طلباتهم مكانَها دون انجاز …
إنّ نسبة الشجعان المخلصين من الموظفين،- الذين يصرّون على تطبيق القوانين دون اختراق، ويوطنون أنفسهم على تحمل الأثار والنتائج القاسية لمواقفهم – ليست بكثيرة ، لا بل هي قليلة جداً ..!!
-4-
ومن ذلك أيضا :
ما جاء في مذكرات العميد الركن فيصل شرهان العرس، حيث كتب أنه لم يذعن لرغبة عبد السلام عارف – وهو رئيس الجمهورية – في قبول احد المتقدمين لكلية الأركان .
لان المطلوب قبوله كان صاحب ( درجة واطئة حسب قواعد القبول والنظام )
وحين أعلنت النتائج اتصل به وزير الدفاع طالباً حضوره ، وحين حضر قال له :
( كيف تشطب اسماً رغب الرئيس في قبوله ؟ )
ثم قال الوزير للعرس :
” اذهب لمقابلة الرئيس في القصر الجمهوري ،
وحين ذهب قال له عارف :
( أنا زعلان عليك يا فيصل ،
كيف تشطب الاسم الوحيد الذي رشحتهُ للقبول في كلية الأركان ) ؟
يقول العرس :
( شرحتُ له الموضوع ، ثم فتحتُ له الاضبارة ، وشاهد قوائم الارقام السرية ، ودرجات الطالب ، ثم القوائم حسب تسلسل المقبولين على وفق درجاتهم المرسلة للاستخبارات وأَدركَ بنفسه عدم أهلية الطالب للقبول، بسبب درجاته الواطئة في الاختبار قياسا بالمقبولين الذين كانوا أعلى منه .
قال :
رغم ذلك ، كان عليك ان تجلب لي القوائم لكي أقرر أنا بنفسي مَنْ يُقبل ومن لا يُقبل في كلية الاركان .
قلت :
سيادة الرئيس :
ان مسؤولية القبول في كلية الاركان حدّدها نظام الكلية، ولم يرد في النظام ان تجلب القوائم لسيادتكم ،
هذا من جهة ؟
ومن جهة أخرى :
ان الامتحان هو الذي يحدّد مَنْ يقبل ،
فضلاً من ذلك :
انّ جلب القوائم لكم قد يقع تحت تأثير المرافقين أو أصدقائهم مما قد يكون عرضة للتلاعب .
الى ان قال عارف :
( انا قائد لثلاث ثورات ولا يحق لي قبول طالب واحد ؟!!
قلت له :
اننا نعدّ ضباطا في هذه الكلية ليكونوا قادة الجيش في المستقبل، تتوفر فيهم شروط العلم والمعرفة والاخلاق العالية والرجولة والشجاعة وصفات القيادة .
سيادتكم يمكن ان يكون لكم شأن في الترفيعات ومنح الانواط والاوسمة والايفادات الى الخارج، لكن بالقبول في كلية الأركان ، اعتقد هذا غير صحيح ، لان المقبولين ستكون بيدهم مقاليد البلد والجيش ، لذا يجب اختيارهم ضمن ضوابط وشروط معيّنة ، ويجب ان لا تتأثر باي تأثير شخصي )
وواضح من هذا الحوار الساخن أنَّ (العرس) لم يتزحزح عن موقفه الرافض لقبول من يريده الرئيس قيد أنمله ،
وبقي مصراً على انه لم يفعل الاّ ما يجب ان يفعله وفقاً للقانون .
ثم قال العرس لعارف :
(اني أترك هذه الاضبارة أمام سيادتكم ، واني ذاهب الى البيت ،
ارجو قبول استقالتي ، لاني أصبحتُ غير موثوق به )
وكانت نهاية المطاف ان قال (عارف) (للعرس) :
( اذهب الى عملك ،
ولن أقبل استقالتك وانك مازلت موضع ثقتي )
مذكرات العميد الركن فيصل شرهان العرس ص61-64
-5-
ولا نريد الحديث عن الاختراقات أيام الدكتاتورية البائدة لأنها أكبر مِنْ أنْ تعّد أو تحصى .
ويكفي ان يُمنح نائب العريف رتبةَ فريق اول ركن ، لا لشيء الاّ لأنه صهر الرئيس ..!!
واكبر الاختراقات على الاطلاق :
ان العراق أرضاً وشعباً وثروة أصبح ملكاً (للقائد الضرورة) يتصرف به كيفما شاء دون رقيب ولا حسيب …!!
-6-
ومما يُدمي القلب ان ” العراق الجديد ” لم يتخلص من الاختراقات الخطيرة للقوانين …، حتى انقضى عام 2014 – وهو عام الفواجع والكوارث ، واعلان دولة الخرافة – والموازنة العامة للدولة لم يُصادق عليها من مجلس النواب العراقي ..!!
وهذه هي المرة الأولى في تاريخ العراق التي تصل فيها الاختراقات الى هذا الحدّ …
-7-
ان الاختراقات ، بشتى ألوانها وعناوينها وشخوصها ، ليست الاّ الدليل على اننا لم نمتلك بعد مقومات الدولة القائمة على اساس المؤسسات وايفاء “المواطنة” استحقاقاتها المطلوبة في الألفية الثالثة .