الأوطان برجالها، و الرجال بأفعالهم، و الأفعال خيرها ماكان في خير الناس. إن التضحية من شيم النبل، والمضحي قد يرتقي سلالم المجد والعلى لو ضحى باليسير من ما يملك، فما بال من ضحى بأغلى ملكه ؟ و هل للأنسان أغلى من روحٍ و حشاشةٍ ملكاً؟
لحكايتنا هذه عنوان وبداية، ولكن ليس لها نهاية، ففي النهاية تبدأ بداية جديدة، بداية الخلود. في يوم الأربعاء المصادف 17-12-2014، مثل كل مرة يبدأ هجوم لقوات البيشمركة على جرذان داعش، ركبنا ناقلات الأسعاف الفوري و سرنا إلى حيث مكان المواجهة في الخطوط الخلفية لأسعاف الجرحى، لم يخطر ببالي ساعتها أن يكون أحد المصابين هو العقيد( شيخ أحمد المزوري)، ذلك الضابط الشاب المقدام الذي كان من ضمن الفرقة الذهبية التابعة للجيش العراقي، و حين بدأ هجوم داعش على كوردستان، التحق مع مجموعة من رفاقه بساحات القتال في كوردستان و أسس قوة مكافحة ارهاب محافظة دهوك، لم تكن تمر معركة إلا و نسمع أخبار بطولات مجموعته و كيف يكونون دوما في خط المواجهة الأول مع داعش و يشكلون القوة الضاربة التي يقع على عاتقها الأقتحام المباشر، سقط من هذه المجموعة العديد من الشهداء ناهيك عن الجرحى، حتى إن قائد المجموعة نفسه ( احمد المزوري) جرح في أحدى المعارك، و استمر في القتال رغم جراحه.
في ذلك اليوم( الأربعاء17-12-2014)، كانت المعركة في اطراف ناحية زمار( التابعة لمحافظة نينوى) لتحرير ما تبقى من القرى من أيدي داعش و فتح الطريق الذي يربط الناحية بقضاء سنجار، بدأت المعركة من الصباح الباكر و توالت الانتصارات و تحررت القرى الواحدة تلو الأخرى و بأقل عدد ممكن من الجرحى و الشهداء، اقتربت الشمس من المغيب وكنا نشعر بالملل من وقوفنا بدون عمل، وفجأة سمعنا دوي انفجار هائل قريبا من حيث نقف، و لم تمضي سوى دقائق حتى أتوا الينا بمحموعة من الجرحى و اثنان او ثلاثة شهداء، و بينما كنا نداوي الجرحى واذ باحدهم بدا مألوفا لي، لم أعرفه بادئ الأمر بسبب الدماء التي كانت تغطي وجهه، ثم تأكدت أنه هو العقيد (احمد المزوري) قائد مجموعة مكافحة الأرهاب، وعندها شعرت بضيق شديد أثقل على
كاهلي، قدمنا للجرحى الاسعافات الاولية و نقلناهلم الى المركز الطبي المتقدم في مكان قريب لاجراء العلاج اللازم، وقفت في مكان متجمدا، سألت أحد المقاتلين البيشمركة الذين أتوا بالمصابين الينا: ماذا حدث؟
أجابني: كنا في منتصف القرية و قد أوشكنا على تطهيرها، و فجأة رأينا سيارة مصفحة قادمة باتجاهنا، ادركنا انها سيارة مفخخة، حاولنا التصدي لها بنيران رشاشاتنا المختلفة، لكن دون جدوى، ساعتها أصبح جليا أن الضرر واقع لا محال و ستصل هذه السيارة الى قلب صفوفنا قريبا، و حينها سيسقط العشرات من القتلى والمئات من الجرحى، في لحظتها رأيت العقيد (احمد المزوري) يتوجه بعربته المصفحة الى حيث تأتي السيارة المفخخة، أوقف عربته في طريقها حاجزا، نزل منها و أشار الينا بيده أن ننقذ أنفسنا، رمينا أنفسنا على الأرض و بقي هو في مواجهتها بنيران رشاشه الخفيف، و جعل من نفسه و عربته حاجزا امامها، انفجرت السيارة المفخخة على بعد مترين منه، هكذا جعل العقيد ( أحمد المزوري) من نفسه درعا لأجل زملائه و ضحى بحياته لينقذ حياة الآخرين.
أي بطولة هذه، و أي رجولة تملك؟ أي رباطة جأش، و أي عزم تملك ؟ وقفت متحديا الموت مبتسما ببسالة، أيا رجلا بألف رجل, أيا رجلا لم يعرف الخوف طريقا للوصول الى قلبه.
اصيب العقيد (أحمد المزوري) بشظايا في رأسه، و استشهد بعد تلك الاصابة ببضعة أيام. هذا الشاب كان مثلا للأنسانية و نبل الاخلاق في حياته، وكان بطلا مغوارا في مماته، بكته بغداد اكثر من مدينته دهوك، فبغداد عرفته جسورا غيورا مقداما في الوغى، و عرفته بغداد حنونا رؤؤفا عطوفا على فقرائها، هذا الرجل كان يمشي في شوارع بغداد في اليوم الذي يستلم راتبه، و يمد يده الى جيبه و يعطي منه لكل محتاج و مسنٍ يراه امامه، فتنفتح افواه المساكين دهشةً، من هذا الملاك الرباني الذي يعطيهم بسخاء، و لا يكاد يبقي في جيبه شيئا ؟
نعم بكته بغداد أي بكاء، و بكته مدينته( دهوك) أي بكاء، و ودعته الوداع الأخير بجمرات تُذرفُ من العيون، لكن ذكراه ليس لها وداع، و اسمه سيبقى خالدا في تاريخ العراق و كوردستان و الانسانية جميعا الى أبد الآبدين، نعم إنها حكاية الشهيد الذي لم يمت، بل حفرَ اسمه خالدا في اوراق التاريخ و ستذكره الأجيال و سيتغنى ببطولته
الأطفال حين يقرؤون قصته في المدارس و سيقول كل واحد منهم : أنا البطل أحمد المزوري. الطبيب