كنا في عزاء احد الاحبة, قد غاب عنا في هذا الشتاء البارد, رحل عن الدنيا حاملا معه احلامه التي لم تتحقق له في العراق, رحل جلال الشاب البغدادي المتعب من ضغوط الحياة, وهو يحلم بان يكون له بيت صغير, يحمي عائلته من برد الشتاء ويحفظ كرامتهم, اتذكر نقاشاته معنا جيدا عندما يريد ان يثبت ظلم صدام فيقول لنا: ” لقد حرمنا من ان يكون لنا بيوت نسكنها, وكان يستطيع ان يمنح كل عراقي بيتا فخما, لكنه رفض والرفض دوافعه خبيثة, وهذا اوضح ادلة طغيان صدام”, هكذا كنا نفكر ونحدد شكل الحاكم الظالم المتجبر, فالحاكم عندما لا يهتم بحل ازمة السكن وهو في مقدوره حلها فهو طاغية ظالم.
لكن من جاء بعد صدام كرس نفس الظلم ونفس الطغيان, وها هو صديقنا يرحل وحلم البيت الهادئ يرحل معه الى القبر, في مقابل هذا الظلم تتجسد لوحة القبح بالطبقة السياسية والاحزاب, فحتى اطفال السلطة وشواذ رجالها وقافلة المومسات التابعة لهم, قد تملكوا قصورا وبيوت فخمة في باريس ومدريد وبروكسل وطنجة! وكلها تحققت لهم عبر استباحة خزائن الدولة.
خمسة عشر عاما والظلم يتكرس في حياة اهل العراق, نتيجة حكم العواهر والشواذ, انها طبقة سياسية قذرة تمتلك اخلاق القوادين فتبيع الشرف مقابل المال, لذلك تم اغتصاب حقوق ابناء العراق البسيطة, والمتمثلة بالسكن والعمل والتعليم والصحة, فكانت السلطة ورجال الاحزاب ترتضي أي شيء يفعل بالعراق مقابل بقائها بالسلطة! حتى انها عمدت الى سن قانون يحفظ لها كرسي الحكم, في ابشع طريقة للتشريع في العالم, انهم وبكل بساطة مجرد “قوادين” تسلطوا على العراق وخيراته ومؤسساته.
كان صديقنا المتوفي يقرأ كثيرا, فيحدثنا عن لندن تلك المدينة العجيبة التي لا يصل اليها حتى خيال السندباد او مارد علاء الدين, ويصف لنا شوارع الثقافة في باريس, ونكهة الكتب وولع الباريسيين بالكتب, وعند الحديث عن برلين يصف لنا تلك المقاهي الليلية الثقافية, التي تجعل من ليل برلين بنكهة الشعر والقصة والرواية والمقال, كل هذا وهو لم يسافر ابعد من مدينة النجف, فالسفر يحتاج للمال والوفير, وهو ما افتقده صديقنا طيلة حياته المتعثرة.
بالمقابل فان الطبقة السياسية وعواهرها وقواديها واطفالهم وشواذهم وقافلة المتملقين والمنافقين والجهلة, فانهم قد جعلوا من تلك المدن مقرا لهم, فالسفر لا ينقطع عنهم شهرا, وهم لا يقدموا للحياة الا العبث والافساد, انها انتكاسة الحياة العراقية التي تعطي الفرصة لمن لا يستحقها, وتبخل بالفرصة لمن هو مستحقا لها!
كلنا نحلم بحقوقنا المسروقة( بيت للسكن, خدمات, تعليم, صحة, عمل) وهي تعود الينا في يوما ما, لكن ها نحن الواحد تلو الاخر نغادر الدنيا وحقوقنا لا تسترد! وليل الظالمين في توسع, لقد كان احمد يحلم بان يجد العلاج لمرضه الذي انهكه, وحسان كان يحلم بان يحصل اطفاله على فرصة التعليم الجديد, وابو هدى وهو يحلم بان يتم تبليط شوارع حيهم, وسالم وهو يتمنى ان يحصل على عمل يحفظ كرامته, كلهم رحلوا وهم يحلمون بحقوقهم وهي تصبح واقعا يعيشوه, لكن لم يجدوا الا الخيبة في زمن صدام وفي الازمان التي تلته!
وعندما اصل الى هذه النقطة من التفكير, اجد نفسي وبشكل تلقائي اردد ذلك الدعاء الذي حفظناه منذ ايام الحصار, نردد ونتمنى تحققه, فالظلم هو هو لم يتغير: (( اللهم انا نرغب اليك في دولة كريمة, تعز بها الاسلام واهله, وتذل بها النفاق واهله,…)), فننتظر ذلك الاذلال الموعود للنفاق واهله, المتحكم الان بمصير البلد.