10 أبريل، 2024 8:36 ص
Search
Close this search box.

اجيال الشعر العراقي

Facebook
Twitter
LinkedIn

كان المكان غاليري الفينيق وفي مائدة البياتي كنت أصغي اليه وهو يتحدث أو بالاحرى يرتجل مقالته الأسبوعية وأقوم بكتابتها على الورق بسرعة فائقة وبخط أنيق . وهذا يحدث في كل اسبوع مرة حين يأتي البياتي جالباً معه الظرف ومكبرته التي يقرأ فيها للتدقيق في بعض الاحيان ، كانت المقالة يغلب عليها الطابع السياسي بالضد من أمريكا وسياساتها البرغماتية تجاه منطقة الشرق الاوسط  ، وحروبها القذرة وموقفها الداعم على طول الخط  لاسرائيل التي تحتل الاراضي العربية في فلسطين والجولان  وثمة قضايا أخرى كان قد طرحها البياتي في مقالته . 400 دولارا شهرياً تأتي الى البياتي من أربعة مقالات في مجلة  (الوسط ) التي تصدر في لندن  ، يرتجلها وأنا اكتبها وأبعث بها الى مكتب الشرق الاوسط أثناء جلساتنا في الفينيق أو في الحانة ، صفحة ونصف الصفحة مقالة البياتي الاسبوعية في الغلاف الاخير لمجلة ( الوسط ) التابعة لجريدة الشرق الاوسط اللندنية ، وأحياناً كنت أذهب مع البياتي الى مكتب الجريدة في عمّان الواقع في شارع الجاردنز بالقرب من الفينيق نشرب القهوة مع عبد الرحمن الراشد مدير المكتب في تلك الفترة . لم يكن علي السوداني في الفينيق كعادته ، سألت البياتي عنه قال انه في غرفة التحرير مع السيدة سعاد الدباح مديرة الفينيق وصاحبته ، يقوموا بتنضيد العدد الجديد من جريدة الفينيق النصف شهرية والتي كان يشرف عليها الشاعر علي الشلاه قبل سفره الى سويسرا . أنتبه البياتي ليّ بعد أن أكملت ظرف المقالة التي سابعث بها الى مجلة الوسط في اليوم التالي ووضعتها في حقيبتي الجلدية الصغيرة ، قال أذهب واستعجل علي السوداني فقد تأخر الوقت وأصبحت الساعة الثامنة مساءً ، علينا الذهاب الى الحانة ، ذهبت الى غرفة تنضيد الجريدة ورأيت السيدة الدباح وهي تجلس على كرسيها الفخم ومكتبها قبالة المكتب الذي يجلس فيه السوداني كان أثنان من عمال الكومبيوتر يجهّزون التصحيحات الاخيرة ، لكن الجميع بأنتظار الكلمة النهائية في تدقيق علي السوداني على كل مادة من المواد التي ستنشر في الجريدة ، وجدت العمال يضحكون بشدة وكتمان خوفاً من السيدة الدباح مديرة الفينيق التي كانت تخفي أبتسامتها لحظة دخولي عليهم ، كانت تصنيفات علي السوداني على كل صغيرة وكبيرة قد أجبرت العمال على الضحك . ألقيت بالتحية ليبادلني السوداني بتحية مع ضحكات عاليات ، ضحكت أنا ، قال علي أذهب انت مع البياتي وسوف ألحق بكم فهذه المتكبرة لا تسمح ليّ بالخروج حتى أنتهي من هذا العدد الذي يجب أن يذهب الى المطبعة الليلة ، وهكذا هو علي السوداني في كل عدد جديد من جريدة الفينيق التي تكون باشرافه يجعل نكاته تنثال على هيئة التحرير التي ترأسها السيدة سعاد الدباح ، وهذه السيدة التي رحلت عن الدنيا بعد سنوات طويلة من أقامتنا في المنفى ، كانت تعمل كأعلامية في دول الخليج العربي ولحبها بالثقافة فتحت هذا الغاليري واصدرت جريدة ونشاطات ومهرجانات شعرية ودعوات رسمية وجهتها لشعراء من كافة اقطار الوطن العربي لحضورهم السنوي في مهرجان الفينيق الشعري ، كان محورها الشاعر علي الشلاه الذي أجاد وببراعة أدارة الفينيق وجعل منه معلماً ثقافياً ومنافساً قوياً للفعاليات التي كانت تقام داخل الاردن سواء من قبل وزارة الثقافة أو من روابط وجمعيات ثقافية أخرى . كل هذه الامور كانت على حسابها الخاص ، حتى أنها حين يصادف البياتي مريضاً ولا يستطيع المجيء للفينيق تتصل به هاتفياً وتبعث بباقة ورد الى بيته كتحية له . وذات مرة عرضت راتبا شهريا للبياتي مقابل حضوره اليومي في الفينيق لكنه رفض هذا العرض جملة وتفصيلاً ، فكانت أموره المادية ميسورة جداً خاصة بعد أن فاز بجائزة سلطان العويس عام 1996 . أنطلقنا من الفينيق بأتجاه حانة الياسمين ، ثم جاء حسب الشيخ جعفر ونصيف الناصري ، لتنفتح قنينة ( عرق حداد الذهبي ) أستمر الحوار في الشعرثم سأل البياتي حسب الشيخ عن الاسبوع الماضي الذي لم يره فيه ، رد عليه حسب بأنه يكتب الكثير من الشعر هذه الايام ولابد من أنجاز مجموعة جديدة ، وقد كتب قصيدتان جديدتان عن البياتي ، ثم أخرج أوراقه من معطفه ليقرأ لنا قصائده الجديدة المهداة الى البياتي : ( ملوية الشيخ الرقيد السهروردي / تطيلُ ظلها / على اغبرار الخضرة الباهتة )  ، لينتعش البياتي ويعجب بقصائد حسب الشيخ جعفر الجديدة ، ثم جاء محمد النصار لتتسع مائدتنا ويتسع فيها الحوار ويتشعب أكثر حتى دخل الحانة فوزي كريم وخزعل الماجدي ، ليأمر البياتي نادل الياسمين المصري بأن يصّف لنا مائدة أخرى بجنب مائدتنا ، وهنا أصبحت المائدة كبيرة تبتسم للوجوه الجالسة وأصبحت تلفت أنظار كل الجالسين في الحانة ، تحدث فوزي كريم عن الحياة والشعر في المنفى بطريقة الشاعر العارف الذي أقضى سنوات طويلة في منفاه ، ليعكس حسب الشيخ جعفر صورة حياته في المنفى الروسي فترة الستينات التي كانت تختلف كلياً عن فترة كريم الثمانينية والتسعينية في لندن ، ويتحدث البياتي عن المنفى الذي خبره لعقود طويلة حتى كبر به العمر ليستقر في الاردن . وفي وقت سابق كنت قد سألت البياتي عن سبب اختياره الاردن والاقامة فيها ، قال ليّ حينها أنني قد زرت الكثير من دول وعواصم العالم وأقمت سنوات طويلة في موسكو ومدريد والقاهرة ولكن بعد هذا العمر يجب عليّ أن أقيم في بلد يعوضني عن العراق ، وليس سوى الاردن أو سوريا الاقرب جغرافياً ، كذلك فأن عامل  اللغة والدين والتقاليد والعادات متقاربة واشياء كثيرة أخرى مشتركة فهي نفس الثقافة الامر الذي يشعرك بالقرب من العراق ، وكذلك نفس السؤال كنت قد طرحته في يوم سابق على  الشاعر سعدي يوسف وكانت الاجابة ذاتها . كنا نصغِ الى تجارب شعرية  مختلفة في الاسلوب والمنشىء ، تجارب علمت الشعرية العراقية والعربية الكثير ، علمت كيف يكتب الشعر بمدارسه المختلفة وتطوراته التي شهدها بعد ثورة الشعر العربي الحديث التي قادها العراقيون المتمثلة بنازك  الملائكة والسياب والبياتي وبلند الحيدري وغيرهم ، ولعل أغلب الانقلابات الشعرية إذا جاز ليّ تسميتها في تغيير الذائقة الشعرية العربية بعد أن كانت مختصرة على القصيدة الكلاسيكية كانت نابعة من العراق . ثم تحدث خزعل الماجدي عن خروجه من العراق في تلك الاوقات الصعبة التي يعاني منها العراق وتجيير المؤوسسة الثقافية برمتها لرأس النظام ومدحه مع هبوط ثقافي عام في ما ينشر على صفحات الجرائد والمجلات الثقافية بأستثناء بعض الاسماء التي أختارت العزلة في بيوتها لتحفظ تاريخها الثقافي الذي أبتدأته . كنت ومعي نصيف الناصري ومحمد النصار وعلي السوداني الذي ألتحق بنا بعد أن أنجز عدد جريدة الفينيق وبعث بها الى الطبع ، كنا ننصت الى حديث البياتي وفوزي وحسب وخزعل . كان البياتي سعيداً جداً في تلك الليلة خاصة حين تكون مائدته مزدحمة باصدقائه ، همس البياتي في أذني عن موضوع كنت قد رتبته تقريباً قبل يوم من هذه الجلسة وكنت أراقب باب الحانة ومن يدخلها ، حيث كنت قبل يوم في بيت شاعرنا الكبير سعدي يوسف وسألني عن البياتي ، صحته واين يجلس هذه الأيام بعد مغادرته الفينيق ، قلت لابي حيدر أنه يجلس في حانة اسمها الياسمين حتى منتصف الليل ، قال ليّ سعدي يوسف بأنه سيزورنا غداً في هذه الحانة ليؤدي التحية على البياتي ، ولهذا همس البياتي في أذني يسألني عن قدوم سعدي ، قال ليّ أن الوقت قد تأخر ولا أظن ان سعدي يوسف  سيأتي ، وفعلا لم يأت بسبب انشغالات ومواعيد داهمت برنامجه اليومي على ما يبدو كما قال ليّ لاحقاً . أستمرت جلستنا الى وقت متأخر من تلك الليلة والاحاديث تتوالى والذكريات تنهال والكؤوس ترتفع بنخب البياتي الذي كانت ابتسامتة طاغية على ملامح وجهه ، كانت مداخلاتنا النصار والناصري والسوداني وأنا مختصرة على بعض التعليقات أو الاجابة على بعض الاسئلة التي كان يوجهها البياتي لنا عن أمور وأحداث مرت قبل سنتين أو ثلاثة داخل العاصمة الاردنية عمّان ، وبينما جاء ذكر بعض أدباء عدي صدام داخل العراق ، حتى أوضح الأمر نصيف الناصري بطريقته السوريالية لينتبه وهو في سياق حديثه أن كل أجيال الشعر العراقي تجلس الآن على مائدة عبد الوهاب البياتي ، ضحكنا جميعاً وأوضح الناصري الأمر ليقول ، أن البياتي رائد الشعر العربي الحديث ، وحسب الشيخ جعفر وفوزي كريم من الجيل الستيني ، وخزعل الماجدي من الجيل السبعيني ، ومحمد النصار ونصيف الناصري من الجيل الثمانيني ، وهادي الحسيني من الجيل التسعيني ! قال البياتي فعلا أن أجيال شعرنا العراقي كلها أجتمعت في هذه المائدة الياسمينية الجميلة . كان صوت كاظم الساهر قد تعالى في مكبرات الصوت  للحانة عبر جهاز التسجيل ، ليناد البياتي على النادل ويأمره بتغيير هذا الشريط البائس ويضع شريطاً للمطرب المصري هاني شاكر الذي يحب سماعه كثيراً البياتي ، بعد أن يسأل النادل عن صوت المطرب ومن يكون في محاولة منه لتقليل قيمة وشهرة الساهر ، ولعل موضوع كاظم الساهر والبياتي قد حدث قبل أكثر من سنتين من تاريخ هذه الجلسة بعد أن جاء كاظم الساهر الى عمّان وطلب موعداً مع البياتي ليقوم بتلحين وغناء قصيدة بغداد للبياتي ، وكان الساهر فرحاً بهذا اللقاء إلا أنه نقض الاتفاق مع البياتي ليقوم بتلحين وغناء واحدة من قصائد نزار قباني الأمر الذي جعل من البياتي أن يستاء كثيراً من الساهر ومن تصرفه الاحمق ! ولهذا بمجرد سماع صوت الساهر من قبل البياتي في تكسي أو حانة أو أي مكان آخر على الفور يقوم بتغييرها ، وذات يوم وأنا ذاهب مع البياتي الى حانة الياسمين ونحن نسير في سيارة الاجرة حتى سمعت صوت الساهر في أغنية كنت أحبها وبمجرد أن دندنت مع هذه الاغنية لأحصل على توبيخه بطريقة اضحكتني وضحك لها سائق التكسي الذي وبخ هو الآخر على ذوقه ، ليرد السائق على أبي علي ، أن هذا كاظم الساهر وهو عراقي منكم  ، ومنذ تلك الحادثة أصبحت لا أطيق سماع صوت الساهر ! . غادر الجلسة فوزي كريم وخزعل الماجدي بعد منتصف الليل ، وغادر علي السوداني الى عائلته ، وعادت جلستنا مختصرة على البياتي وحسب ونصيف ومحمد وأنا ، وقد أصبحت الساعة الواحدة والنصف صباحاً ولم يبق في الحانة غير مائدتنا التي يعتنى بها بشكل يليق بمكانة البياتي من قبل صاحب الحانة وعماله ، خرجنا لنقف على الشارع الرئيسي ونوقف التكسي ، أوصلنا البياتي الى بيته طرقت الباب ، وبمجرد ان أرى أبنته أسماء قد فتحت الباب نودعه وهو يدخل البيت والابتسامة تطرز وجهه بعد يوم جميل وممتع بالنسبة له ولنا ، لنعود نحن الى غرفتنا في وسط البلد عند طلعت جبل الحسين ، ونجد أصدقائنا في الغرفة جالسين ويشربون لنكمل سهرتنا معهم حتى ساعة مـتأخرة من بزوغ الفجر !

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب