كرست الولايات المتحدة الأميركية في الآونة الأخيرة جهود الكثير من مؤسساتها الداخلية، والاوساط الإعلامية والسياسية الخارجية القريبة منها، لعرقلة إقرار قانون الحشد الشعبي من قبل مجلس النواب العراقي. ورغم انه لم يتم حتى الان إقرار القانون.
في واقع الامر، تمثل المحاولات الأميركية لمنع إقرار قانون الحشد الشعبي جزءا من مشروع انهاء الحشد، سواء عبر دمج افراده في المؤسسات والمفاصل الأمنية الرسمية، وبالتحديد وزارتي الدفاع والداخلية. او من خلال اغلاق ملفه، تحت ذريعة انتفاء الظروف التي استدعت ايجاده، وبالتالي تحويل افراده الى المؤسسات المدنية الحكومية بحسب اختصاصاتهم الاكاديمية والمهنية.
واذا كانت واشنطن قد تجنبت في أوقات سابقة الحديث العلني والمباشر عن رؤيتها تجاه الحشد الشعبي، حتى لا تبدو وكأنها تتدخل بالشأن العراقي الخاص، فإنها باتت الان تتحدث بمليء الفم وبلا أي حرج او تردد، ومن اعلى المستويات، عن ما تخطط له وتريده، واقرب مثال ومصداق على ذلك، إشارة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال المحادثة الهاتفية مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في الثاني والعشرين من تموز-يوليو الماضي، بحسب بيان للخارجية الأميركية، الى “مخاوف الولايات المتحدة بشأن مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي الذي ما يزال قيد المناقشة في مجلس النواب، مشدداً على أن تشريع هذ النوع من القوانين سيؤدي إلى ترسيخ النفوذ الإيراني والجماعات المسلحة الإرهابية التي تقوض سيادة العراق”!.
ومن بين طيات وثنايا مثل هذا الكلام، يمكن ان يفهم-او يتأكد-ان الولايات المتحدة تتعاطى مع مجمل عناوين وحقائق الوضع العراقي من زاوية مصالحها وحساباتها السياسية والأمنية الخاصة، اذ انها في الوقت الذي تقدم دعما ماليا وتسليحيا ولوجيستيا متواصلا منذ أعوام عديدة، وبمئات الملايين دولار سنويا، لقوات البيشمركة الكردية، ولجهات سياسية وغير سياسية عراقية مختلفة، نراها تلقي بكل ثقلها لانهاء الحشد الشعبي، علما انها استهدفت خلال الأعوام المنصرمة، الكثير من مقراته وقياداته وعناصره، تحت ذريعة تهديدهم للقوات الأميركية المتواجدة في العراق وسوريا تحت مظلة التحالف الدولي.
وفي هذا الاتجاه، فإن مؤسسات بحثية واكاديمية أميركية قريبة من مراكز القرار، مثل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، لاتتوقف عن التحذير والتخويف من مخاطر وجود الحشد الشعبي، في اطار توجه ممنهج ومدروس لشيطنة تلك المؤسسة، وتصويرها وكأنها خارج منظومة الدولة العراقية ومتمردة عليها، واكثر من ذلك تابعة وخاضعة لاطراف خارجية.
ففي مقال كتبه “مايكل نايتس” المتخصص بشؤون العراق وايران والخليج في المعهد المذكور، في شهر نيسان-ابريل الماضي، تحت عنوان (خطورة السماح بتمرير قانون هيئة الحشد الشعبي العراقي). قال انه “يتعين على إدارة ترامب أن تشير بهدوء، ولكن بحزم إلى بغداد بأن إضفاء الطابع الرسمي على قوات الحشد الشعبي بوصفها “حرساً ثورياً عراقياً”، سيُمثل تحدياً غير مقبول للمصالح الاستراتيجية الأمريكية”، ويضيف أيضا، “ينبغي على القادة في بغداد أن يدركوا أن الولايات المتحدة لن يكون لديها الكثير من وسائل الضغط الهادئة المتبقية في ذلك السيناريو، وستضطر إلى اللجوء إلى وسائل ضغط صاخبة، مثل فرض عقوبات على الحشد الشعبي بالكامل، كما فعلت مع الحرس الثوري الإيراني. وهي خطوة قد يكون لها تأثيرات مالية واسعة على بقية النظام المالي العراقي، نظراً لأن الحشد الشعبي هو قوة تدعمها الحكومة ماليا”.
ولايختلف هذا الكلام من حيث المضمون عن ما قاله روبيو للسوداني خلال المكالمة الهاتفية بينهما، ناهيك عن ان بعض منصات التواصل الاجتماعي سربت مؤخرا معلومات غير مؤكدة عن تحذيرات أميركية وصلت الى عدد من الزعماء السياسيين العراقيين الشيعة-وحتى لغير الشيعة- من تبعات ومخاطر تمرير قانون الحشد من قبل البرلمان.
ويبدو ان واشنطن التي كانت تبحث عن تطمينات من بغداد، او تحديدا من كبار الشخصيات السياسية والحكومية، انصدمت برد السوداني على روبيو، وكذلك ردود أخرى وصلت اليها عبر قنوات غير رسمية عراقية. اذ ان رد السوداني كان واضحا وقاطعا، حينما اكد لوزير الخارجية الأميركي “ان طرح قانون الحشد الشعبي أمام مجلس النواب يأتي ضمن مسار الإصلاح الأمني الذي انتهجته الحكومة، وهو جزء من البرنامج الحكومي المعتمد من مجلس النواب، وقد شمل هذا المسار إقرار قوانين مماثلة لأجهزة أخرى ضمن قواتنا المسلحة، مثل جهازي المخابرات والأمن الوطني، وأن الحشد الشعبي هو مؤسسة عسكرية عراقية رسمية تعمل في ظل صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة”.
وحتى الان، لايوجد في الأفق ما يشير الى ان الضغوطات الأميركية يمكن ان تفلح في ثني مجلس النواب العراقي عن إقرار قانون الحشد، حتى في ظل مقاطعة ممثلي المكونين الكردي والسني، ووجود بعض المسائل الفنية المختلف عليها بين قوى المكون الشيعي.
هذا من جانب، ومن جانب اخر فإن تهويل البعض من ردود الأفعال الأميركية، ربما يندرج في اطار حملات ومساعي افشال تمرير مشروع القانون، او في افضل الحالات، ترحيله الى الدورة البرلمانية المقبلة، بإعتبار انه لم يتبق سوى شهرين ونصف على موعد اجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة.
واذا كانت رسائل واشنطن واضحة حول الحشد، فإن رسائل بغداد هي الاوضح في خضم كل اهتزازات واضطرابات احداث ووقائع المنطقة والعالم.
—————————