كانت القنابل تأتي إلى المدينة كغربان
مذعورة ، تنفجر في مكان ما ، فترتفع سحابة
غبارية ماتلبث أن تتلاشى ، ولبرهة يعم السكون
ولم يكن البيت الذي استأجرت إحدى غرفه – بعد
قصف بيتنا القديم – يعرف ضوضاء البيوت الآهلة
فباستثناء الدوري الذي يحدثه انفجار القنابل ، كان
البيت صامتا كمغارة ، وكانت غرفه الثلاث تتوزع
في حوش دائري قديم ، أسكن أنا إحداها ويسكن
صاحب البيت العجوز الأخرى ، أما الثالثة
عبارة عن مخزن مهجور كنت أرى الرجل دائم
الحركة في حوش البيت كسلطان مخلوع، يجلجل
بقبقابه الخشبي متفقدا شؤون البيت أو صاعدا إلى
السطح يرعى مجموعة من الطيور ترفرف في الحوش
الصامت . وفي المساء يفاجئني بجلسته المعتادة أمام
غرفته التي تحاذي غرفتي ، مفترشا بطانية مطوية بضع
طیات ، تتهدل حول كتفين
عجفاوین ، حانیا هامته ، مستغرقا بالنظر في كتاب
أو يستمع إلى المذياع أو يعبث بشيء ما . وكنت
أغادر الى الجبهة وأعود ولا يزال الرجل يتحرك نافخا
من سيجارته قبضة دخانية كثيفة مغمغا بشیء ما ، أنا
وهو دائها كائنان متوحدان ، ولم يكن ثمة ماير بطنا
غير التحية المقتضبة . لكن ثمة ما كنت أهجسه في
عينيه وهو يرقبني من طرف خفي ، فأقرأ في وجهه
رغبة دفينة لمحادثتي
قلت له ذات مساء : أنا ضجر ، أود أن أتجاذب
معك أطراف الحديث ، تهلل وجه الرجل ، وحاول
أن ينهض لمصافحتي قال : على الرحب والسعة ،
اجلس. شیء رائع أن أتحدث إلى رجل أشم في ثيابه
رائحة البارود وضحك عن
أسنان صدئة وأردف ” مع أنه
بدخل في رئتي كل يوم
قلت : هل تعني البارود؟
– آه .. ومن سواه ؟ أما القنابل فيا للمضحك
ثلاث قنابل سقطت قرب المستشفى وأخرى
قرب المدرسة دون أن تنفجر ، لو كنت هناك
لرفستها بقدمي كخفافيش عمياء ، أحيانا أتساءل وأنا
أراها تأتي في المساء مضيئة كعين فسفورية : ترى ما
الذي تقوله هذه الكتلة الحديدية اللعينة ؟
ذات يوم قرأت قصيدة عن قنبلة تتحدث مع
نفسها وهي تثقب صدر الريح وقلت : أحقا أن
القنابل تتحدث ؟ يا للعجب ! كيف استطاع خیال
الشاعر أن يجمع كفرس ، ويصنع هذا العالم
الغريب ؟ فحين اقرأ قصيدة جميلة بخيل الي أن
صاحبها أمسك الفرشاة – لا القلم – ورسم لوحة فبها
دهشة وانبهار كخيط من الضوء إنه الضوة الذي
نقط على الغابة الموحشة ، فيضيء بقعة صغيرة هي
أقرب الى الفيروز فأقول هو ضوء الروح لاغير
وتمنيت أن أكتب شعرا ، وقلت ما الذي يملكه
الشعراء غير بياض الروح الباهر ؟ وعندما أمسكت
القلم ارتعشت الأصابع وسقط القلم فبكيت .
أنحنى الرجل رأسا متعبة وتخيلته ينكمش تحت
الغطاء ويختفي . قلت :
– وهل يهمك أن تكون شاعرا؟
. ليس تماما ، ربما هي حالة من الانبهار الوقتي ،
لكن لماذا ارتعشت الأصابع في الوقت الذي
استسلمت الأفكار لرأسي ، إن الافكار تأتي هادئة
كصببة خجول ، تطرق الباب فإن لم تجد من يشرع
لها الأبواب ، ولت هاربة . فهل تطرق الباب ثانية ؟
أدركت أني أمام رجل يزدحم بالافكار ، لم أدر بم
اجيب ، غير أنني قلت :
. لكنك في صحة جيدة ، أراك تتحرك في حوش
البيت كغزال بري
اغتصب ابتسامة باردة
. هل قلت غزالا بريا ؟ ما أجمل ذلك ، كلام يصلح
لموضوع مدرسې ، لكن ماضير أن يمتلك الغزال
رأسا بحجم رأس الديناصور ؟
وضحك عن نواجذ مصفرة وخدين هرمين
وأردف : هل رأيت غزالا بريا ؟
– مرة واحدة في الجبهة ، رأيته يسقط بفعل رصاصة
طائشة فهرعت إليه ، وضمدت جراحه وتركته يهرب
ابتسم الرجل وضرب على ساقه بكف معروقة :
– ذلك ما فعلته أنا بالضبط ، کنت- في شبابي – أطارد
الثعالب والضباع والدبية ، وكاد عنقي في إحدى
المرات يدق بسبب ثعلب عاندني . لكنني في النهاية
اصطدنه ، وجلست تحت الشجرة أعالج جراحه
ثم تركته وانصرفت .
– وهل كنت تتسلی ؟
– لا أدري ، ربما هي حالة من العناد الانساني
الغامض لاتلبث أن تغادر الرأس كقبضة من
الدخان .
– يبدو أنك كنت صیادا في وقت ما
– أوه .. هي واحدة من هوايات كثيرة . هل رأيت
الحواة اذ يلعبون بعدة أشياء في الهواء ! حسنا كنت
متعدد الهوايات شغوفا بذلك الجنون الانساني – کما
أسميه . حتى أنني تصورت أنه سيعيش في الرأس مهما
تقادم الزمن
لكن الاختناق الذي اصاب الرئتين تركني مقطوع
الانفاس لا أطلب أكثر من نسمة هواء تمط الرئة
المتعبة . ثم وجدت نفسي أقفل على أحلامي
المضحكة وأرميها في البحر ألا تراني بهذه الجلسة ضحكة أشبه المومياء المحنطة
– . كلا إنك تتسلى بالقراءة وال ….
– عجيب ، في هذا الجو الثنائي والقنابل تهبط
كالفاكهة المسمومة .
ضحك وهو يسحب من جيبه شيئا بحجم
الاصبع ، دسه في أنفه وسحب نفسا كالشهقة قلت :
. قد يضرك البرد .
توقف بصره على وجهي ، ومضت فترة قبل أن
تطرف عيناه ويمد يده الى سيجارته المطفأة قال
هامسا :
– تقول يضرني البرد ، البرد ، هه ، والقنابل التي
تسمعها الان ألا تضرني هي الأخرى؟ عجیب
رجل مثلي خاض حروبا ومظاهرات قديمة هل يخشى
البرد؟ علمتني الحياة أن الحرب دمل في الخاصرة ،
وما عليك إلا أن تضع المراهم وأوراق الخروع
ليصبح الدمل سهل الازالة ، وهل الحرب غير تجربة
يحتملها الرجال ليبعدوا الرصاصة عن القلب ؟
ونظر في وجهي متأملا :
– هل انت في اجازة الآن ؟
– ثلاثة أيام
– أراك دائما في غرفتك . ألا تقرب من الجلوس على
سريرك
– أين أذهب ” انتهى كل شيء ، أمي وأبي وثلاث
اخوات
– با الهي . ما الذي حدث ؟
– تحول كل شيء الى كومة عظام بسبب قذيفة
موداء
– با الهي
– وهرعت أتلفت کمجنون في كل اتجاه
وساعدني العشرات من الناس ، وأخرجت الجثث
الخمس أشلاء ممزقة :
– با الهي
– وفي الجبهة كاد رأسي يتدحرج بين قدمي ، بل كاد
يتناثر کتف صغيرة من اللحم لاتمسكها اليد ، وكنت
انجو في كل مرة باعجوبة ، وفي احدى المرات كنت
امسك الانفاس حين وجدت نفسي محاصر . و كنت
أقول هي موتة واحد: هبها لمن تعشق ، واجعل لجسدك
اجنحة تنطلق في الفضاء ، وكنت أضحك
من الأسر ، ثم صرت في الآخرابكي ، وأقول
هي حالة من الموت المجاني ان تجد نفسك في الاسر بينما
الوطن ينتظرك , وفي النهاية اخذني عشق القراءة – في وقت الاستراحة – ولا سيما كتب الفلسفة . فهل تصدق ذلك ؟
-اصدق ، وهل القراءة غيرنتاج تلاقح العقل الإنساني مع
أنفاس الحياة ، علمتني الحياة أن الوجع الذي لا تمسسکه الید
سرعان ما تتلاشى كقبضة من الدخان في حالة إضاءة بقعة صغيرة داخل النفس الانسانية . ما هي تلك البقعة الصغيرة ؟ ليتني
علمت . في شبابي قرأت تلالا من الكتب . قرأت في الطب
والأدب والفلسفة والتاريخ والكيمياء القديمة . خليط متناقض .
وكنت أحمل دفترا كبيرا أدون فيه ما يخطر في البال . كان مليئا
بالخطوط الجغرافية والمعادلات أو بالكلمات التي أود حفرها في
الرأس . كنت أيامها عاشقا للسفر والترحال بشكل جنوني ..
تركت زوجة شابة وطفلا في الثانية . وقطعت الكرة الأرضية
مثلما أقطع الطريق الى رأس الشارع . زرت القطب الشمالي . الجنوبي .
. طفت في بلاد الثلج ، ورأيت الدببة البيضاء وهي
تتمطى على الجليد كقطع من الاسفنج . ولست في لهيب افريقيا
نصف عار حتى اسود جلدي و التهب بافوخي واشتغلت مع بعض
القبائل البدائية في جني الصمغ من الاشجار . وتعلمت بعض
الكلمات من عشرين لغة . لكنني ، وبعد كل هذا التجوال ,
اكتشفت عبث أن أستمر في لعية مضحكة بينما الوطن يضرب في
الصدر كالمسمار .
قرأت مرة أن الوجع قد يلد النقيض : شيئا أقرب الى
الاحساس الأثيري الهادی، ذلك عجيب . لكنني أصدق .
وإلا كيف يطوف الفرح الأبيض على شفتي الجندي لحظة
استشهاده . لقد أخبرني أحد المقاتلين أن رفيقه همس
له قبل استشهاده أنه يشعر بخدر لذيذ غامض يتمنى لو يدوم – وظل
وجهه يحتفظ بابتسامة سحرية ما برحت مضيئة في رأس الصديق
كمصباح . يومها توقفت أمام العبارة التي تقول كان سعيدا
حد الموت . فحين عدت الى الوطن – بعد غيبة سنوات ۔ على
ظهر إحدى البواخر ، ووجدت نفسي فوق مياه شط العرب
ألقيت بجسدي في الماء ، رحت أسبح كسمكة نهرية . وضحك
الركاب ، وأدركوا أنهم أمام حالة فريدة . وقالوا لقد كنت طوال
الرحلة تمتطي ظهر الماء فما الذي حدث ؟ ولم أخبرهم ما طعم
الماء في شط العرب . وخرجت من الماء مبلولا ضاحكا ، فلثمت
أول ما لثمت وجه زوجتي التي قالت ضاحكة : كنت أعرف أنك
ستعود أيها الدرويش . لكن المسكينة ماتت بعد سنوات قبل أن
ترى الابن الذي صار مقاتلا
توقف الرجل عن الحديث ، أشعل سيجارة جديدة ، وناولني أخرى ، وارهفنا السمع الى صوت انفجار قريب ، وعلق الرجل أنها القنبلة الثانية ، فأين عساها تكون الثالثة ؟ .
نفض رماد سيجارته في منفضة معدينة صغيرة ، ورسم على وجهة الأجعد ابتسامة واهنة ، وقال : في بداية الحرب كان سعيد في الخامسة عشرى من عرمه ، وكان يصعد الى السطح مساءً ويرقب العيون الحديدية اللامعة ، ويهتف من فوق : هذه قذيفتنا .. هذه قذيفتهم ، يا للولد الذكي ، صارت له الخبرة في معرفة عائدية القنبلة من صدى الانفجار ، وكان يمضي جل نهاره على السطح مع مجموعة من الطيور البيض اشتراها من سوق الجمعة ، وصنع لها قفصاًجميلاً من الخيزران ، وعندما التحق بالجبهة ظلبت الطيور تهدل بغيابة بطريقة شجية ، وكان في كل إجازة يندفع الى أحضاني لدى اباب معانقاً ، وما يلبث أن يسحب ذراعية ويندفع ثانية الى السطح ولا يهبط ألا بعد المغيب ، وكنت أعجب لهذا العشق الكرنفالي ، وكان يجيب على دهشتي : وهل من ثمة أجمل من أن تغفو بين أنغام لا تصنعها الأنامل البشرية ؟! .
و فوجئت به مرة نائماً بينما الطيور ترفرف حواليه وعلى خوذته وكتفيه ، كان متعباً حين دهمته الاغفاءة ، فهل رأيت شيئاً كهذا : جندياً بكامل ثياب المعركة ينام مع الطيور ، وغمرني إحساس النشوة وأنا ارى ولدي يرسم في نومته لوحة ، يا لقوة الشعر والفرشاة أن تصنعا مثلها ، حسناً ، هل اخبرتك انه كان رساماً ايضاً ؟ لقد رسم مرة وجهي في غفلة مني ، اذ كنت نائماً ، وعندما استقيظت لم أصدق ، انه يقول شيئاً بلغة الفرشاة ، فمتى تعلم هذا الصبي الذي الذي لم يتعلم رسمه بالحجارة على الارض الا ( الشخابيط ) ؟ .
اننا نكتشف احياناً في بوتقة الروح اشياء تجعلنا نتساءل كيف استيقظ من غفوة الموت ؟ هل حدث ذلك فعلاً ؟ ، واخبرني ولدي مرة انه يكتب المذكرات أيضا ،يقتنص الكلمان=ت في وقت الاستراحة ، ويمنحها ضوء الروح فتتحول الى كائن كالطير يرفرف في فضاء المعركة ، أخبرني بذلك وهو ينظف رشاشته فنهضت مقبلاً يا للولد الأسمر ، ونشر بعضها في صحيفة محلية ، وعندما قرأتها بكيت وتذكرت ما كتبته وانا في مثل سنة ، وقلت يا لسخف ما كنت انا اكتبه .
وكان يبعث الرسائل من الجبهة في كل شهر بانتظام ، رسالتين في الشهر ، ويذيلهما دائما بأسئلة طريفة عن ذقني التي يجب الا أهمل حلاقتها والطيور التي يحذرني من رغبة طارئة تصيبني فأشوي واحداً منها ، أو يقول ضاحكاً : هل تود كتابة المذكرات يا أبي ؟ تعال هنا ، وانظر كيف تكتب المذكرات بأسنان البندقية ، وجاءني يوماً وقد ومضت رأسه فكرة عجيبة ، وقرر أن ياخذ معه طيرين الى الجبهة ، فهو سيجد لهما هناك ملجأ أميناً ، وفعلا أخذ الطيرين وغاب ثلاثة شهور دونما أجازة ، وفي اليوم الاول من الشهر الرابع عاد أحد الطيرين وحيداً ، وحط على قفصه بسكون ، وما لبث ان هبط الى الداخل ، وانكمش في الزاوية يهدل بصوتٍ طالطعنة ، وبعد أيام جاءوا بولدي شهيداً.
ووجدت ننفسي أبوح بأسرار روحي للجدران ، وتنازعني رغبة خفية لأبحث عن مذكراته ، واذ عثرت عليها تلمستها بخشوع ،فأدهشتني النفس المضيئة في كل سطر ، وكدت أصرخ مع نفسي إنها البقعة المضيئة في الغابة الموحشة ، انه الضوء الذي يسقط في الظلمة فتمسكه المشاعر ةنبضات القلب وبلا أدنى تردد خطوات الى حيث كنت أحتفظ بمذكراتي في صندوق قديم ، أمسكتها ورحت أمزقها صفحة صفحة ، وألقي بها في كل مكان ، فأين ما كتبته أنا مما كتبه ولدي في لهيب النار ؟، وبعد اسبوع قرع الباب ، ووقفت أمامي فتاة شابة لم اكن رأيتها من قبل، وقدمت لي رزمة من الرسائل ، وقالت بخجل هادئ ، أنها من سعيد ، كان يراسلني منذ شهور .
وتضوج وجهها بخمرة التفاح ، وأردفت كالبكاء : هل ترا لي قادرة على الاحتفاظ بها وهي تميتني كل يوم ..
توقف كل شيء في رأسي مرة واحدة ، وجدتني دائخاً كسمكة خرجت من الماء ، ماذا يعني أن أجد نفسي محاصراً بقصة تلهب الرأس ، وتنفجر في الداخل كقنبلة مؤقتة ؟ كيف يستيقظ المخبوء بالنفس الانسانية على موضوع صغير يتلخص في بضع كلمات ؟ وهل الحياة- يا للحياة العظيمة – سوى كتاب ببضع كلمات ! وايقنت أنا الجندي الذي أمضى في الحرب ثلاث سنوات ، أن الاشياء العظيمة هي أمضيتها محارباً بالمفردات ، وألا بم أوجز السنوات الثلاث التي أمضيتها محارباً، بينما الموت والحياة يسيران جنباً إلة جنب ، توام لا يفترقان .
وانا في الخندق أحاول إبعدا شبح الموت والخراب بأظفاري وبقيت في غرفتي – مستيقظاً – منشغلاً باستعادة عبارات الرجل العدور وربط أجزائها من جديد ، أحاول في آخر الليل هضمها على مهل . وماذا يعني الليل ؟ انه الدوي والانهيار الذي يعقبه صمت مقلق ، حسن تستيقظ صباحاً لترى البيت الذي كان الى جوارك قد أصبح فراغاً ، مجرد هياكل طابوقية ، ونثاراً من اللحم والدم ، وأصواتاً كانت تحاورك ذات يوم ، فلقد عودتنا الكتل النارية اللاهبة أن لا موعد للموت القادم .
وهل كنت أتوقع وأنا اعود من الجبهة الى بيتنا القديم .. هل كنت اتوقع ان كلتة لا مرئية ستتجه الى بيتنا فيتحول كل شيء إلى دخان ؟.
في الواقع أن ثمة شيئاً أبيض ، ربما هو فيض من ضباب لا أعرف ما هيته غلف راسي فلم أعد أرى أي شيء.
لكنني استطعت أن أميز عشرة أذرع لخشمة أجساد ، بخمسين إصبعاً تبرز من باطن الأرض كحروق لاهبة وتمسك بالسماء .
وفي الجبهة ظل الفيض الضبابي يغلق رأسي و أنا أحدق الى أمام قابضاً على رشاشتي بأسناني ، وأهمس يغضب مكتوم : لن تنفجر قنبلة أخرى ، لن أرى الشوارع تمتلئ بالحفر السود ،لن تقف البيوت على هياكل طابوقية ، وكان الرجل العجوز عالماً جديداً أطل عليه إذ يأخذني التعب والدوي ، فنتحاور ، ويمتد الحوار وكان ولده الغائب وفتاته البصرية ثالثنا في الحدث ، كائنان يتوسطان ، ويتحركان في فضاء الحوش كضباب سحري أزرق ، واكنت القنابل تتخلل الحديث ، وفي الجبهة أسرق الوقت لأقرأ رسالة وصلتني م نالرجل فأتشرب الكلمات ببطء هادئ ، فها هو يحدثني عن الطيور وعن اخر مكتاب قرأه ، ويعيد لي مقاطع المذكرات كما كتب سعيد .
ويسالني رأيي في طبع ما كتبه ذلك الاديب الصغير ، وقال في نهاية الرسالة أن الفتاة البصرية قد جاءته ثانية فأذهله قدومها المفاجئ ، قالت أنها تريد استعادة رسائل سعيد ، واعترفت حزينة أنها نادمة إذ أعادتها أول مرة ، فهي أحق بها حتى لو كانت نزيفاً في القلب ، وأعطاها الرجل الرسائل فا حتضنتها بحرص ، وغاردته دون أن يعرف من تكون .
وفي رسالة لاحقة كتب لي أن الفتاة جاءته مرة ثالثة ، وطلبت أن ترى طيور سعيد ، فطالما حدثها سعيد عنها ، ودخلت الفتاة البيت ، وصعدت الى السطح أوطعمت الطيور ، وداعبتها بمرح ، ثم خرجت وهي أكثر مرحاً.
وقال الرجل في ذيل الرسالة : في إجازتك القادمة سأضع بين يديك مذكرات سعيد ، لقد أخرجتها من مخبئها ونفضت عنها تراب الزمن ، وانا واثق أنك ستجد فيها شيئاً ، فربما ألمتك – في الأقل – أن تكتب المذكرات .
وفي الاجازة كنت أجلس في البيت ، وبين يدي مذكرات سعيد ، مبهوراً بالخط الجميل والكلمات التي تشبه حبات الؤلؤ ، فها هو يقول : أنا حائر أمام قوة الحرف ، انه يطوقني
کالقيد حتى وأنا في جبهة الوت . انه السيد المطاع وأنا
العبد ، ولكن لماذا أعبد ذلك السيد الجميل ؟
ويقول في مكان آخر : لقد علمتني الحرب أن الشهاداء
لا يقدمون التحية لأحد . أن الآخرين هم الذين يلقون التحية .
إذا على القرن الحادي والعشرين أن يرفع قبعته بمجرد أن يقترب
من قبري .
وفي صفحة أخرى : حبيبتي .. ليس الحب أن ينظر بعضنا
الى بعض ، وإنما أن ننظر سوية في اتجاه واحد .
ويختتم إحدى الصفحات قائلا : لقد قرأت هذا الاسبوع
ثلاثة كتب مرة واحدة ، فتعلمت الكثير . وأدركت أننا نتعلم من
احتكاك الأفكار في الهواء الطلق . ولكن لماذا تريد الرصاصة
أن تقتل هذه الأفكار ؟
*********
أعترف أنني التهمت المذكرات التهاما . قرأتها كلمة كلمة
فأيقنت أن ذلك المقاتل كان يمتلك موهبة التحرك في جميع
الاتجاهات بطريقة مدهشة ، وإلا كيف وجد الوقت للحرب
والحب والكتابة . وتمنيت لو أقرأ ما كتبه لأبيه ولحبيبته ، تمنيت
أن أقرأ كل ما خطه الرأس المضيء ، وهممت أن أطلب الى
الرجل ذلك غير انني ترددت . ووجدت قدمي
تقودانني ذات
يوم الى السطح حيث الطيور والفضاء الأبيض والشط الذي لاح
عن بعد کبیرة ، هادرا . أصغيت إلى الهديل الذي يلمس القلب.
فكيف لم أر الطيور من قبل وهي فوق رأسي دائما ؟
تقدمت مراقبا حركاتها الهادئة ، وعيونها الخرزية اللامعة
وغمرتني نشوة اثيرية وأنا أرى أفراخا تصوصو في الزاوية .
وثمة في الزاوية الأخرى بيوض على كومة قشية تنتظر التفقيس .
مددت يدي ولست مداعبة الأجنحة اللحمية والزغب الأصفر
الناعم ، لمس النعاس جفني کنسمة هادئة ، فاتكات بين اليقظة
و المنام على القفص , ورفرفت الطيور حولي . شعرت بخفق
أجنحتها ، وبهاء منعش يلمس وجهي . ولم أنتبه إلا على دوي
انفجار قنبلة سقطت على المدينة ، وانهار شيء ما ، وارتفعت
سحابة غبارية ، ولبرهة انفجرت قنبلة أخرى ، ورفرفت الطيور
مذعورة ، وحطت، غلى القفص من جديد . كنت لاهيا كل
ما عدا الطيور ، متكئا على القفص ، تسحبني الاغفاءة الهادئة
ولم أكن أكترث أن تأتي القنبلة السوداء المسعورة .