اطلالة:
قبل الولوج في عرض الموضوع لابد من التنويه الى ان المدونة أصبحت حقيقة قانونية مسلم بها وهذا ما ذكرته سلفا في اكثر من مادة واكرره الان، لذلك اتعامل معها على انها نصوص تشريعية مع التحفظ على مركزها القانوني الذي هو محل جدل حيث أرى انها لا ترقى الى مستوى القانون وعلى وفق ما تم عرضه تفصيل في ما سبق ، والغاية من استعراض بعض المواد فيها من اجل الوقوف على ما سيقع من تعارض بينها وبين النصوص القانونية النافذة، سواء الإجرائية او الموضوعية، وهذا ديدن المختص بالقضاء وهو الشخص الذي تولى تطبيق القانون وفض النزاع عبر الوسائل القضائية وباليات التفكير القضائي بالاستدلال على الأدلة وتمحيصها ومعرفة أساس المشكلة محل النزاع وهو في قلب الميدان الاجتماعي الذي تطبق عليه القواعد القانونية، وهذه المزية جعلته قادرا اكثر من غيره في معرفة عوار النص والخلل فيه، حيث يخوض في جميع فروع القانون من خلال نظر مختلف الدعاوى التي تعرض عليه، اما المختص بعلم القانون وهو الذي تولى الدرس في المدارس والكليات والجامعات الحقوقية والقانونية او الصياغية او في طائفة المستشارين الذين يقدمون المشورة غير الملزمة في اغلب الأحيان، وفي العالب يكون من الذين يدرسون علم القانون ونظرياته ويتخصص في فرع معين من فروع القانون، فيرتقي في العلم عمودياً ويتولى اسمى واعلى المراتب العلمية فيه، الا انه لا يملك كل النمعرفة في بقية الفروع، وانما ما يعرفه من بقية فروع القانون لا يتعدى الحاجة الى مقتضيات الدرس ، من باب الثقافة القانونية العامةومثال ذلك من يختص بالقانون الدستوري يكون له الكعب المعلى والمقام الاسمى في اختصاصه ، الا ان معرفته بالاحوال الشخصية لا تقارن بصاحب المعرفة في فرع الأحوال الشخصية، من اهل العلم والدرس القانوني، فضلا عن الذين قضوا سنوات في قضاء الأحوال الشخصية،
ومما تقدم فان عرض مواطن الخلل في النصوص سواء في المدونة او في غيرها ليس الغاية منها انقاص قدرها التشريعي، وانما حتى يتحقق الاطمئنان للجميع من مطبقين ومنفذين والمواطنين اللذين هم وعاء التطبيق، وبهذه الوسيلة والنقاش الهادئ خارج نطاق الانفعال نوفر الاطمئنان للجميع،
وفي هذه الاطلالة سوف اعرج على موضوع يتعلق بقواعد الاثبات التي تصدت له احكام المدونة، وفي جزئية تتعلق بالوصية التمليكية وعلى وفق الاتي:
وفي نص المادة (125) من المدونة قد عرفت الشاهد العدل (هو من كان ملتزما في سلوكه العملي بالأحكام الإلزامية في الشريعة الإسلامية، لا يتعمد ترك واجب او فعل حرام منها، ويكفي في الكشف عن ذلك حسن الظاهر، أي حسن المعاشرة والسلوك الديني)
ثم في نص اخر أتت بحكم ليس له وجود في القواعد القانونية المعتادة في قانون الاثبات عندما جزئت اثبات الوصية المدعى بها بمقدار عدد الشهود من النساء وعلى وفق ما ورد النص الاتي (تختص الوصية التمليكية بأنها تثبت بشهادة النساء منفردات فيثبت ربعها بشهادة امرأة عادلة ونصفها بشهادة امرأتين عادلتين وثلاثة أرباعها بشهادة ثلاث نساء عادات وتماما بشهادة أربع نساء عادلات بلاحاجة إلى اليمين في شهادتهن)
وفي هذا النص يثبت ربع الوصية اذا كان الشاهد امرأة عادلة ونصفها بشهادة امرأتين عادلتين وثلاث ارباعها بشهادة ثلاث نساء عادلات، والنصاب لأثبات الوصية بأكملها هو شهادة اربع نساء عادلات،
اثبات الوصية في القوانين النافذة: اما اثبات الوصية في ظل القوانين النافذة فانه في نصين الأول خاص وهو قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل والثاني عام وهو قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل وساعرضهما على وفق الاتي:
قانون الأحوال الشخصية: جاء في القانون أعلاه نوعين من الاثبات (الأول) يكون بتوثيق الوصية امام الكاتب العدل او امام المحكمة المختصة وهي محكمة الأحوال الشخصية بالنسبة للمسلمين، وعلى وفق احكام المادة (65/أولا) التي جاء فيها (لا تعتبر الوصية الا بدليل كتابي موقع من الوصي او مبصوم بختمه او طبعة ابهامه فاذا كان الموصى به عقارا او مالا منقولا تزيد قيمته على خمسمائة دينار وجب تصديقه من الكاتب العدل)
وفي هذا النص اصبحنا امام الاثبات المقيد او الاثبات القانوني لان القانون هو الذي يحدد نوع الدليل وقيمته واجراءات تقديمه الى القضاء ويلتزم الخصوم بتقديم هذه الادلة المذكورة في القانون دون غيرها ،وفي المادة أعلاه قيد القانون نوع الأدلة المقدمة التي تثبت الوصية اما بالدليل الكتابي أي بوجود محرر مكتوب ينسب الى الموصي وقع او امضى عليه او كتبه بخط يده اثناء حياته،
اما النوع الثاني من الاثبات الوارد في المادة أعلاه هو الجواز باثبات الوصية بالشهادة اذا انكره الورثة، على شرط وجود المانع الادبي ، وعلى وفق ما ورد في المادة (65/ثانياً) من قانون الأحوال الشخصية التي جاء فيها (يجوز اثبات الوصية بالشهادة اذا وجد مانع مادي يحول دون الحصول على دليل كتابي )
ويقصد بالمانع المادي الذي استقر عليه الفقه والقضاء وجود قوة قاهرة أصبحت مانعا من تدوين الوصية بورقة تحريرية ويشير احد الكتاب الى ان الموانع الأدبية هي كل استحالة ترجع الى طبيعة الواقعة او ظروف التعاقد او انشاء التصرف التي حالت دون الحصول على الدليل الكتابي وتعد من الموانع الأدبية جميع الحوادث المادية التي تحصل بفعل الطبيعة مثل الفيضان الذي يمنع الموصي من الذهاب الى المحكمة او الكاتب العدل او الذي يحول بينه وبين توفر الورقة التحريرية او موانع بإرادة الانسان وجود اشخاص يمنعونه او مرض اصابه
قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل: في هذا القانون لا يجيز اثبات التصرف الذي قيمته اكثر من خمسة الاف دينار الا بالبينة التحريرية (الدليل الكتابي) وعلى وفق احكام المادة (77) التي جاء فيها (اذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على ٥٠٠٠ خمسة الاف دينار او كان غير محدد القيمة، فلا يجوز اثبات هذا التصرف او انقضائه بالشهادة ما لم يوجد اتفاق او قانون ينص على خلاف ذلك)، بمعنى ان الوصية التي تزيد قيمتها على خمسة الاف لا يجوز اثباتها الا بادليل الكتابي عند انكار الورثة لذلك،
قانون التسجيل العقاري: اما بالنسبة للوصية في العقار فان قانون التسجيل العقاري رقم 43 لسنة 1971 المعدل قد منعت تسجيل أي وصية تتعلق بعقار الا اذا كانت بحكم قضائي بات او حجة شرعية من المحكمة المختصة والتي تصدر بناء على طلب الموصي في حياته وتوثق من المحكمة او الوصية التي تنظم امام الكاتب العدل وعلى وفق احكام المادة (249) من قانون التسجيل العقاري التي جاء فيها (تسجل الوصية الواردة على حق الملكية العقارية سواء كانت الوصية بالتمليك او بصرف ثمن العقار (الوصية بالعين) او بريع العقار بعد وفاة الموصي وذلك بالاستناد الى الاحكام القضائية الحائزة درجة البتات او الحجج الشرعية والوصية المنظمة من الكاتب العدل ما لم يعترض عليهما من قبل ذوي العلاقة)
النصوص المتعارضة: ان نص المواد (233 و 234) من المدونة اجازت الاثبات بالبينة الشخصية الشهود بشكل مطلق لاثبات الوصية التي ينكرها الورثة حتى لو كان المدعي غريب عنهم او من الأقارب الابعد، لان نص المواد أعلاه جاء بشكل صريح وواضح وعلى وفق ما تقدم ذكره، بينما قانون الاثبات وهو المرجع في قواعد الاثبات قد منع اثبات التصرفات التي تزيد قيمتها على خمسة الاف الا بدليل كتابي ، باستثناء وجود المانع الادبي، اما اذا تعلقت الوصية بالعقار فان قانون التسجيل العقاري حصر تسجيل الوصية الا بالطرق الثلاث امام حكم قضائي بات او حجة شرعية صادرة عن المحكمة المختصة او الوصية التي ينظمها الكاتب العدل، وبذلك اصبحنا امام تنازع بين الاحكام التي وردت في المدونة وبين الاحكام الواردة في القوانين النافذة والملزمة للجميع،
فاذا عملنا على فض الاشتباك وإزالة التعارض بموجب القواعد العامة فيذلك بقواعد (اللاحق ينسخ السابق والخاص يقيد العام) لابد وان نكون امام نصين في مرتبة واحدة متساوية في هرم التشريع العراقي، بينما المدونة ليست بقانون وانما صدرت استنادا لقانون وهي بدرجة ادنى من القانون، والتعارض ليس بين نص في قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية والقوانين النافذة وانما كان بين المدونة وتلك النصوص، ولا يمكن لغير القانون انينازع القانون