رغم الحديث عن تشكيل مناطق آمنة للمرة الأولى من قبل النظام السوري وحلفائه، لكن بنود الاتفاق لا تشير إلى وجود ما يجعله مختلفا بصورة كبيرة عن اتفاق الهدنة السابق.
تجنّبا للحرج، سارع النظام السوري إلى الإعلان عن موافقته على إنشاء ما أسماها “مناطق خفض التوتر”، وذلك قبل يوم واحد من إعلان كل من روسيا وتركيا وإيران التوصل إلى اتفاق لإقامة ما يفترض أن يكون “مناطق آمنة” في سوريا.
ويأتي الاتفاق الجديد بعد نحو خمسة أشهر من توقيع اتفاق الهدنة في العاصمة الكازاخية “أستانة”، ليتم كما تم الاتفاق السابق في ظل غياب الولايات المتحدة الأميركية.
ورغم الحديث عن تشكيل مناطق آمنة للمرة الأولى من قبل النظام السوري وحلفائه، لكن بنود الاتفاق لا تشير إلى وجود ما يجعله مختلفا بصورة كبيرة عن اتفاق الهدنة السابق.
هنالك جديد بكل تأكيد ولكنه لا يرتبط، حتى الآن، ببنود الاتفاق وإنما بالسياق السياسي والدولي العام الذي جاء فيه، وخصوصا الانخراط المتزايد للولايات المتحدة الأميركية في الملف السوري وفي ملفات المنطقة بصورة عامة.
إذ بدت الأطراف الراعية للاتفاق الجديد، روسيا وتركيا وإيران، وكأنها تريد تحقيق تقدم في الملف السوري بالتوازي مع النشاط الأميركي المثير للمخاوف.
فمنذ تولي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب للسلطة مطلع العام الحالي، عمل على استعادة تدريجية للنفوذ الأميركي في العراق وسوريا من خلال إرسال المزيد من القوات والمعدات العسكرية وتكثيف الهجمات على تنظيم الدولة الإسلامية.
الأهم هو الضربة العسكرية المفاجئة التي وجهتها الإدارة الأميركية للنظام السوري بعد استخدامه للسلاح الكيمياوي، وإعلانها بوضوح عن إمكانية تكرارها كلما اقتضت الحاجة.
تختلف طبيعة مخاوف روسيا وإيران وتركيا ولكنها مخاوف جدية في نهاية المطاف. إذ يثير التزايد المستمر في عدد القوات الأميركية في سوريا والعراق مخاوف إيران وروسيا من خسارة المكاسب التي حققها البلدان خلال سنوات الانكفاء الأميركي.
أما تركيا فلا تزال تشعر بقلق كبير من جراء التحالف والدعم الكبير اللذين تحظى بهما القوات الكردية في سوريا من قبل الولايات المتحدة، وتكثيف مخططات استعادة مدينة الرقة من الدولة الإسلامية، وهو ما سيعزز من نفوذ وقوة الميليشيات الكردية.
هذا فيما يتعلق بالسياق الدولي والإقليمي الذي جاء فيه الاتفاق، أما فيما يتعلق بجوهره، فلا يبدو أنه مختلف عن اتفاق الهدنة الذي جرى توقيعه في العاصمة الكازاخية أستانة، إذ يشترك الاتفاقان في غياب آلية واضحة للتطبيق.
لقد أبقى غياب تلك الآلية اتفاق أستانة حبرا على ورق، إذ واصل النظام السوري استخدام آلته العسكرية بدعم روسيا وإيران لاقتطاع أجزاء كبيرة من مناطق شملتها الهدنة. كما عمل اتفاق الهدنة على تقييد المعارضة السورية أكثر بكثير من قدرته على تقييد النظام.
وأخيرا، زرعت الهدنة بذور الخلاف وانعدام الثقة في صفوف الفصائل العسكرية وخاصة بين التيار الجهادي والتيار المعتدل.
هكذا، تسبب الاتفاق السابق في حدوث انشقاق كبير فصل التيار الجهادي عن الجيش الحر، إذ اندلعت اشتباكات على إثره وشكلت فصائل متشددة مع تنظيم القاعدة هيئة تحرير الشام، فيما اضطرت فصائل صغيرة من الجيش الحر إلى الاندماج في صفوف أحرار الشام.
وبسبب كل ما ذكر، رفضت فصائل الجيش الحر التوقيع على الاتفاق الجديد رغم أن إنشاء مناطق آمنة لطالما اعتبر أحد أهم مطالبها.
ما قد يجعل من الاتفاق خطوة هامة للتوصل إلى حل للصراع السوري هو وضع آلية تنفيذ جدية تحرم النظام السوري من استخدام سلاح الجو في تلك المناطق، بالإضافة إلى مشاركة أميركية فعالة في الآلية التنفيذية وفي الدفع نحو التسوية السياسية.
إن فكرة تشكيل مناطق آمنة في سوريا هامة للغاية وقد تغير من شكل الصراع في حال تم تنفيذها، إذ تمنع الفوضى المريعة في المناطق المحررة، بالإضافة إلى القصف الهمجي اليومي الذي يمارسه النظام وروسيا، عودة السكان إلى مناطقهم ومباشرة حياة طبيعية، واستعادة الفاعلية الاجتماعية والسياسية المفقودة منذ سنوات.
يرزح المدنيون الذين قرروا الاستقرار في المناطق المحـررة تحت ظـروف معيشية وأمنية شديدة القسوة، إذ تغيب الخدمات التي تشمل الصحة والتعليم والكهـرباء والماء والمحروقات والصرف الصحي.. إلخ عن تلك المناطق. لذلك تعتبر الإدارة المدنية المركزية والقـوية للمناطق المحررة ضرورة ملحة، ليس اليوم فقط، وإنما منذ أعوام طويلة.
من هنا تأتي أهمية الاتفاق الجديد في حال أمكن ترجمته على أرض الواقع. إذن ليس من المتوقع أن يلتزم النظام السوري بتنفيذ مثل ذلك الاتفاق وخصوصا أن استراتيجيته خلال السنوات الماضية قد قامت على منع إقامة أشكال حكم بديلة في المناطق الخارجة عن سيطرته.
ويعد غياب آلية واضحة لتنفيذ الاتفاق وتغيير بنود رئيسية كانت تشير بوضوح إلى منع تحليق طيران النظام السوري في تلك المناطق، مؤشرا على عدم جدية والتزام الأطراف الداعمة للنظام.
نقلا عن العرب