بين يوم وآخر، يثبت للعالم المتحضر أن موجة العنف العارمة التي يمثلها تنظيم داعش تشكل أمثولة متجددة للتفريق بين عالم ما بعد الحداثة في المسار الأول للعولمة منذ سقوط جدار برلين، وإعلانها فوز النظام الرأسمالي على الفكر الشيوعي، وبين المفصل التاريخي في الحادي عشر من سبتمبر، وحادثة تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك لتشكل المسار الآخر لمواجهة العنف الشمولي كنموذج للتحدي الكوني في مهمات استراتيجية للأمن القومي الأمريكي.
قد يبدو هذا القول مثالاً مؤيدا لمقالات الرأي في الصحف الأمريكية أو ما يكرر في الشهادات التي يطرحها المؤرخون الأمريكان أمام الكونغرس، لكن الحقيقة المُرّة التي لابد من الاعتراف بها ان عالم اليوم يسير على سكة المفاهيم الأمريكية، فيما لم يستطع العرب والمسلمون طرح أفكارهم «النيّرة» للفصل بين مفهوم حضاري للإسلام في العصر الحديث وبين تلك التطبيقات التي يقوم بها تنظيم داعش باسم الإسلام والجميع يقولون إنه بريء منها، بل هناك جمعيات أوروبية وأمريكية تبرّأ حتى المسلمون في دولهم المعروف عنهم تطرفهم في نقد تلك المجتمعات التي احتضنتهم. والسؤال: لماذا هذا العنف المتجدد باسم الإسلام؟
في اي مقاربة تاريخية لابد من الاعتراف أولاً بأن انتقال الإسلام من نموذجه الديني الى تطبيقات الدولة قد مرّ من خلال التقاليد والأعراف التي جاء ليكملها وهي تقاليد صحراوية بدوية، فمن حكم الحواضر البشرية في بلاد الرافدين وسورية ومصر لم يكونوا يعرفون عن هذه الحضارات أي شيء غير انهم كفار مطلوب دخولهم الإسلام بحد السيف، ومثل هذا القول لم يتطرق له بالتفاصيل في الكثير من الدراسات العربية إلا من خلال طروحات المستشرقين، التي فيها مغالطات كبيرة، وكنا نحتاج، وما نزال، الى مثل هذا الاعتراف بأن عملية الانتقال من الدين السماوي الى الحكم الإسلامي ومن ثم تكون الحضارة الإسلامية، مرّ بهذه التقاليد ومن أبرز مظاهرها، ان بروز الدولة الأموية كانت بسبب معرفة أبي سفيان بتقاليد اهل الشام، وآليات تعالمهم مع فكرة الحق والمشروعية كما هي في النظم الدستورية اليوم، لذلك استطاع بسهولة إقناعهم بمبايعته على الخلافة بدلاً من الإمام الحسن بن علي عليه السلام، وهو ذات ما يروّج له بوسائل اخرى اليوم من خلال مراكز الفكر الأمريكية التي تناقش أسباب اندفاع الشباب المسلم بشكل عام والعربي منه خاصة لمبايعة داعش وفكرها المتطرف.
وترى الباحثة «مها يحيى» على موقع «كارينغي» لدراسات السلام الدولي ان هؤلاء الشباب يندفعون باتجاه داعش لخمسة أسباب أبرزها فشل أنظمة التعليم العربية في تناول العديد من المثالب في العملية التربوية، وانعدام الفرص الاقتصادية وضعف نظم الرعاية الاجتماعية التي توفّرها الدولة، وتضيف الى ذلك ما نجم عن سوء الحوكمة كشعور راسخ بالظلم، وغذّى هذا الشعور القمع والعنف المنهجي الذي تعرّض اليه المواطنون العرب على أيدي حكوماتهم على مدى عقود باعتبارهم خطراً على الأمن الوطني، وتعتقد أن انعدام الثقة في الغرب قد ساهم في تأجيج الأوضاع سلباً. إذا كانت هذه وجهة نظر مستشرقة من اصل عربي، فالسؤال: ما هي وجهة نظر الحكومات والمثقفين العرب في الموضوع؟، تبدو الإجابة سهلة في التحليلات الفكرية التي اعتمدت منهجية البحث عن الأزمة في العقل العربي كما يذهب اليها الفيلسوف الجابري في كتبه، لكنها تحتاج الى قيادات سياسية تبحث عن تطبيقات منهجية لها، ربما تبدأ في إعادة قراءة مقولة «شعرة معاوية» لشرح العلاقة ما بين المواطن والسلطان!
مثل هذه المقاربة في التحليل السياسي، تطرح تساؤلات عن نتائج مضمونة للعمليات الحربية ضد تنظيم داعش، حيث لا تبدو هذه العمليات المضادة لتمدد تنظيم «الدولة الإسلامية» قادرة على الإتيان بما لم تأتِ به القوات العراقية خلال السنوات الماضية من قتالها لإرهاب تنظيم القاعدة، لاسيما بعد الانسحاب العسكري الامريكي، أسباب هذا الاختلاف واضحة في نمطية العمليات العسكرية الحالية بتفوق قتالي جوي امريكي بمشاركة أوروبية وعربية، مقابل نوع جديد من التوافقات السياسية مثلها استبدال رئيس الوزراء السابق نوري المالكي برئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي، الذي وضع شروط اتفاقات اربيل مع المالكي حينما اتفقت الكتل على استبدال الدكتور اياد علاوي الفائز بالانتخابات التشريعية به تحت عناوين براقة للشراكة السياسية انتهت الى اخفاق متجدد طيلة ولاية المالكي الوزارية الثانية. والرجوع العسكري الأمريكي من شباك مستشاري التدريب بعد أن خرج من بوابة الاتفاقية الاستراتيجية عام 2011، يؤكد بأن العصا العراقية لا يمكن ان تحمل سياسياً إلا باتفاقات إيرانية-أمريكية، والأحاديث عن الخلافات بين واشنطن وطهران كشفتها رسالة الرئيس اوباما الى المرشد الإيراني الأعلى التي صيغت كتهنئته بسلامته بعد خروجه من المستشفى، ودعوته للتعاون ضد داعش، لكن التداول الإعلامي الإيراني اختلف في تسريب رد طهران على الرسالة، بتحميل واشنطن مسؤولية توسع تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، بإشارتها الى أن وقف الدعم الأمريكي لهذا التنظيم كفيل بوضع حد له وتسريع القضاء عليه، مشيرة الى أن هذا الملف أصلاً عند واشنطن وحلفائها في المنطقة. الكثير من المواقع الأمريكية سبق لها أن اشارت الى أن الجيش العراقي والميلشيات «الشيعية» المتحالفة معه تقاتل بجد هذا العام، بدعم جوي أمريكي، لدحر داعش في منطقة جرف الصخر بغداد وكربلاء، ويؤكد الخبير الامريكي مايكل نايتس، المتخصص بالشؤون العراقية في معهد واشنطن على ان المعنى الحقيقي لوجود داعش على أبواب بغداد، ان التنظيم «يستعد لدرجة خطرة بأن يكون قريباً من المراكز الدينية ومحاور النقل الرئيسية، وقد يكون عازماً على تصعيد الاعتداءات الطائفية في أكثر أوقات العام حساسية بالنسبة الى الشيعة، اذ تنظر قوات الأمن العراقية لأيام عاشوراء وذكرى الأربعين بأنهما يشكلان اختباراً سنوياً، وقد حققت نجاحات كبيرة في السنوات الأخيرة عبر الحد من الفوضى التي يسببها تنظيم الدولة الإسلامية وسابقاته».
وحينما يستخدم نايتس مثل هذه العبارات التي تنشر على موقع «معهد واشنطن» الذي يوصف بانه وزارة الخارجية الأمريكية في منظمة ايباك، اكبر منظمات اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، فإن مثل هذه الألفاظ تؤشر نوع التعاون «المقبول» امريكياً ما بين العراق وإيران في هذه الحرب على الإرهاب الداعشي.
والأمر الملفت للأنظار، ان مثل هذه التحليلات تؤكد على صحة الإنجازات التي قامت بها قوات الحشد الشعبي وان اختلفت تسميتها ما بين المصطلح الأمريكي الخطأ، والمصطلح العراقي الصحيح. فيما تبقى التسريبات الإيرانية، مثلما هي عادة تاجر السجاد الإيراني الفاخر، تستمع وتنتظر اللحظة المناسبة لحسم المساومة، بأن تصفير الأزمات في المنطقة لابد أن يمر عبر ملفها النووي، وهو الجزء الآخر من تسريبات الرد الإيراني على رسالة اوباما لمرشد ثورتها، بأن يقول نايتس في هذه الدراسة «وستشكل عمليات حماية الزوار والتصدي لمناورات الدولة الإسلامية في بغداد الاختبار الكبير المقبل الذي سيواجه قوات الأمن العراقية التي تستعيد قواها، ذلك لأن العدو هو بالفعل على أبواب العالم الشيعي». والأكيد ان ايام أربعينية الإمام الحسين «عليه السلام» على الأبواب لتكون احد التوقيتات الصحيحة امريكياً وإيرانياً لتصفير الأزمات الإقليمية في العراق، وهناك انواع اخرى من تصفير الأزمات مطلوبة خليجياً وربما دولياً بالانتظار.