كان يسكن في بيت يقابل الشقة التي اقطنها في المجموعة الثقافية بالقرب من جامعة الموصل، ابو رافي رجل جدي جدا متكلم وانيق وهو بذات الوقت فنان ونحات ومثقف، كنا نجلس مجموعة عند باب العمارة ليلا نتبادل اطراف الحديث، كلهم اكبر مني سنا وبعضهم ربما يقارب عمر ابي، ولهذا كنت احرص على الاستفادة من تجاربهم التي تنوعت بتنوع الاحاديث التي كنا نتطرق اليها.
الاستاذ عبدالكريم معاون مدير معهد السياحة والفندقة لم اعلم انه كردي حتى اخبرني بذلك،فلكنته العربية كانت ممتازة جدا ولهجته المصلاوية متقنة بشكل انيق. ابو احمد الرجل الشاعر الهادئ، الفنان والموسيقي الاستاذ نبيل الشعار انظم الينا في اكثر من مناسبة، فضلا عن ابو رافي الذي كان يحب الجلوس على (الدكة) بدلا من ضيق الكرسي وينهال علينا بنكاته وطارئفه التي لا تنتهي.
ذات مساء كان شهر رمضان في غرته، فاجأنا ابو رافي بقصة جرت معه ولازلت اذكر تفاصيلها بدقة..يقول ابو رافي:
كنت عائدا من باب الطوب (سنتر المدينة) مستقلا الباص، وكان يجلس الى جانبي رجل مسن بدت عليه هيئة القرى والارياف، واثناء سيرنا اخرج الرجل العجوز من جيبه علبة سكائر تناول منها سيكارة وراح يدخن، فقلت في نفسي ربما يشكو الرجل من مرض ما ولا يستطيع الصوم او ربما لكبر سنه، لكني رأيته يدخن بطريقة لا تدل على انه مفطر، فقد كان يتلذذ بالسيكارة وينفث الدخان بشكل يدل على شوقه لها، ساورني الفضول؛ فكيف لشخص وصل الى ارذل العمر ان يفوت يوما من رمضان؟ فهذه الحالة نادرة الحصول في الموصل وحتى في قراها وضواحيها..
فتطفلت على العجوز وقلت له: سلامات ياحاج..
– سلمك الله يابني.
-مريض..؟
-من انا ؟ صحتي جيدة والحمد لله ولدي زوجتان واستطيع ان اصارعك واصرعك بكل سهولة..
فضحكت ضحكة عالية خصوصا وام هذه الدعابة كانت مقدمة لحوار ساخن جدا بيني وبينه..
-حجي لماذا انت مفطر ونحن في غرة رمضان؟
– انا صائم..!!!
-كيف ذاك وقد رأيتك تدخن قبل قليل..؟
-نعم ادخن..!! سيكارة او اثنتين لا تبطل الصوم..
يقول فضحكت ضحكة عالية وقلت له:
من الذي اخبرك بذلك
– جاري يقول سمعتها من احد المشايخ على التلفزيون.
– يبدوا ان جارك مدمن تدخين واراد ان يقنع نفسه ويقنعك بذلك، ياحاج الصيام ليس عن الاكل والشرب فقط، بل هو صيام الجوارح واللسان والكف عن الغيبة والنميمة وكل ما يغضب الله، ثم اني لم اسمع ابدا من العلماء او رجال الدين من اجاز التدخين في رمضان.
نظر الرجل المسن الي قائلا: ربما انت متعلم في المدارس وتعرف اكثر منا، لكن التدخين ليس نميمة ولا يغني عن الماء او الاكل بل يسد الشهية؛ فما الضير في تدخين سيكارة او اثنتين، نحن لا ندخن مثل باقي الايام..يقول صديقي المسيحي فبدأت اسوق له الادلة من القرآن والسنة النبوية واعزز بالقرائن والدلائل طمعا في اقناعه حتى بدت علامات الندم تتضح على محياه.
فجأة.. رن هاتفي، وكان الشخص المتصل من قرى المسيحيين وراح يحدثني باللغة الخاصة بنا، فما ان اجبته بذات اللغة حتى رأيت الرجل العجوز تغيرت ملامحه واخذ ينظر الي وكانه يريد ان يقول هل انت مسيحي؟
اغلقت الهاتف والرجل يتفحص كل مسمام في وجهي، وانا اعلم انه لن يسألني عن ديانتي لان ذلك يعد عيبا في شرع اهل الموصل، لكنه راح يحاول جرجرتي لعلي اخبره، فقد سالني عن منطقتي واين كان يقطن ابي وعن اقربائي ….الخ.
لم اشأ ان اترك الرجل العجوز بين شكوكه لاسيما وان حديثي عن شهر رمضان ومعلوماتي حول الصيام قد شوش عليه الامر..وما ان جاوزنا نهر الخوصر وتقاطع الحي الزراعي وبدأنا نحاذي سور نينوى العظيم قلت له:
يا حاج انا مسيحي ولكني اعلم الكثير عن الاسلام واعلم يقينا ان التدخين يبطل الصوم..
-انت مسيحي؟
-نعم؟
-سبحان الله، لو لم تخبرني لما علمت ذلك ابدا..
ثم تنهد العجوز تنهيدة عميقة وقال:
قبل اكثر من اربعين عاما كنت اعمل فلاحا مع مجموعة من المسيحيين، كنا اخوة ويدا واحدة ولم يكن يخطر على بال احدنا ان الديانة يمكن ان تكون حائلا او حاجزا بيننا.. واليوم كنت اعتقد ان الامور تبدلت وتغير الحال، لكني بعد رؤيتك تاكدت ان ما بيننا لا تفرقه موجة من النعرات وان كانت قوية..
اخبرته حينها اني اوصي ابنائي بعدم الاكل في رمضان امام الناس فذلك ليس من الذوق ولا من الاخلاق وهذا ما تعلمناه من ابآئنا، وفي وقت الافطار نتبادل الطعام مع الجيران، حتى ان وجبة عشائنا في رمضان صارت بنفس توقيت مدفع الافطار ورحنا نضحك وانا امزح معه..
وصلنا جامع هيبة خاتون فنهض الرجل المسن من مقعده وودعني وداعا حارا وغادر تاركا جملة عميقة اخترقت ذاكرتي.. “من بنيانه على الصخر لا يخشى هطول المطر”..
اليوم..تذكرت قصة ابو رافي وانا اشاهد احتفالات برطلة عندما لمحت شخصا يشبهه بالضبط، فعلى الرغم من اننا لم نلتقي منذ سنوات كثيرة، لكن ملامح جاري العزيز الطيب ابو رافي لازالت محفورة في ذاكرتي.. وستبقى..