مع عظيم احترامي لقدسية المُعلم ومهنته النبيلة ..
من الأمور التي شكلت هاجس في فترة الطفولة ، ونحن على مقاعد الدراسة الابتدائية ، وبقيت عالقة في أذهاننا بعد كل تلك السنين ، عقدة لم نقدر على تجاوزها أو القفز عليها ، مهما امتلكنا من إمكانيات ذهنية وعملية ، وهي (ابن المُعلمة ) ، ذلك الطالب الذي تميز عنا في كل شيء ، واستطاع أن ينال كل الامتيازات ، بغض النظر كفاءته ، لا لشيء سوى لأنه ابن المُعلمة ، حقيقة مازلت قائمة في معظم مدارسنا ، نحن الشعوب الفاقدة القدرة على التمييز ،بين الخاص والعام ، وبين الدين والعرف ، وبين الحق والباطل ، كنا ننظر إليه بشيء من الخوف والريبة والحسد ، لأن أمه كانت تمتلك زمام مصائرنا ، ولأن ترتيبه الأول دائما بيننا في شهادة تقيمنا .
هكذا نحن في هذا البلد المسكين ، الذي يشعر المسؤول فيه بأنه نصف آلهة ، و أن الدم الأزرق يسري في عروقه،هذه الثقافة التي نشئنا عليها منذ طفولتنا ، هي جزء من متوالية تاريخية عاشها العراق بعد انقلاب 1968، حين حكمته المدينة ، ثم القرية ، ثم العشيرة ، ثم العائلة ، التي قادتنا إلى ما نحن فيه الآن من بؤس خراب .
بعد 9 نيسان 2003 انتقلت هذه الثقافة المريضة ،إلى معظم سياسيو الصدفة الذين شكلوا المنظومة الحاكمة للعراق بعد سقوط الصنم ، وتحولنا من حكم العائلة الواحدة إلى حكم العائلات ، فأصبح المسؤول الذي يتسنم منصب كبير في الدولة يشعر بان المؤسسة التي يديرها ملكا له ولعائلته ، و(كانتون) يديره وفق رؤية حزبه وطائفته وقوميته وعائلته ، بعيدا عن شيء يسمى ، سياسة حكومة ،وتوجهات عامة ،ومصالح وطنية ،هكذا تدار معظم وزاراتنا هذا اليوم ، حين أصبحت مرتعا لأبناء المسؤولين وإخوتهم وحتى آبائهم ، بعد أن امتلكوا سلطات غير محدودة في هذه الوزارات لا لشيء سوى لأنهم أقرباء الوزير ، حتى سيطروا على زمام كل شيء ، يعينون وينقلون وينهون خدمات ، ويوقعون عقود بملايين الدولارات ، ويجوبون بقاع الأرض الجميلة تحت مسمى الايفادات ، دون أن يمتلك معظمهم أي مؤهل علمي أو منصب رسمي يمكنهم من فعل ذلك .
ابن المُعلمة ، الذي شعرنا ونحن أطفالا بالغبن والظلم اتجاهه ، يبدو انه كان أكثر براءة وسذاجة ، بعد أن تحول إلى حالة أكثر خطورة وتأثيرا على المجتمع ، حتى أصبح ظاهرة عامة تجتاح مؤسساتنا الحكومية وتعبث بثرواتنا ومصائرنا ومستقبل أبنائنا .
يحكى إن أب لأحد المسؤولين زاره إلى مكان عمله فلم يجده ، فما كان منه إلا إن يجلس على مكتب ابنه المسؤول ويطلب عقد اجتماع مع الموظفين ، ليحدثهم عن يومياته مع ابنه المسؤول ، وعن حكايات شعبية يستلهمون منها العبر والدروس .
يقول المجدد الكبير الشيخ محمد عبدة ( إن انعدام السلطة يحدث الفساد ).. وهذا هو التفسير الأنضج والأكثر واقعية لما يحدث الآن في العراق الجديد .