مقدمة
الطموحات لا تقف عند حد، والانسان بطبعه دائم البحث لما يروم الارتقاء به نحو افق معرفي، ليحقق تلك الطموحات، وخصوصًا الانسان الذي يجد في نفسه وفي شخصيته ثمة موهبة تحفزها لنيل تلك الطموحات. لكن احياناً هناك معوقات تقف عائقا لتحول بينه وبين ما يريد وما يرغب، احيانا تكون من تلك المعوقات معوق الفقر. والفقر بطبيعة الحال عامل فعال في الامر بحسب علماء الاجتماع، واحيانا آخر تأتي امور عرضية تقلع أو تذلل من تلك المعوقات وتردم اعماقها، فتنتشل الانسان وتنقله نقلة نوعية، وهذه نادراً ما تأتي المرء، حيث تقلع من امامه غيوم العوز، فيستطيع أن يشق طريقه ويحقق ما كان يصبو اليه.
ففيخته، يظهر أنه من هذا النوع، أعني اجاد عليه القدر بنوع من الاجادة، وفاض عليه من كرمه، أو دعونا نقول ربما هي الصدفة وقد تعبت الصدفة دورها، على ما سنوضح ذلك في الاسطر التالية.
ولد فيخته عام 1762 بألمانيا من أسرة متواضعة دعته إلى أن يعمل في صباه بمعمل للنسيج ثم في رعاء البقر، وكان يواكب دروسا دينيّة في هذه الفترة. وقد ظهر نبوغه، وبان ذكاؤه منذ الصغر. اما ابيه فكان فلاحا بسيطا لا يمتهن غير هذه المهنة؛ لكنه انجب فيما بعد ابنا -اصبح فيما بعد – لامعا في الاوساط العلمية والثقافية (فيخته).
البدايات
كان فيخته يتردد الى الكنسية لسماع عظات الاحد فيحفظها عن ظهر قلب، وهذا هو الذي نوهنا عليه بداية الحديث عنه. إذ كان فيخته يمتاز بذكاء وفطنة، السبب الذي دعا أحد الاثرياء من وجوه البلدة أن يلتفت الى موهبة ذلك الصبي، فتعهّد بالتكفل بنفقات تعلّمه، خصوصا وأن الرجل عرف عنه ميوله الدينية. فلم يحالف فيخته الحظ ولم ينصفه القدر، حيث توفى كافله وفيخته في طور الدراسة، فنال ما نال من ضنك نفقات الدراسة، لكنه حاول أن يتخطى عتبة ذلك الضنك ليواصل دراسته الجامعية، وكانت حول اللاهوت، حيث تلقى دروسا في تاريخ الأديان وفقه اللغة والفلسفة.
وعند تخرجه عيُن أستاذا في اللاهوت بجامعة إيينا الا أن افكاره لم تنل اعجاب الجميع خصوصا الدينيين، ومنهم رجال السلطة والكهنة، اذ حالوا بينه وبين افكاره، فنال منهم الضيق. كان فيخته قد طالع كتب ايمانويل كانت، فدرسها دراسة موضوعية، حتى تأثر ببعضها خصوصا ما يخص الميتافيزيقا وحول القضايا الدينية الاخرى، فكتب بحثا بعنوان “محاولة في نقد كل وحي” وقد استوحاها من افكار كانت، حتى عرضها على كانت فستحسنها الرجل، فنشر الكتاب غفلا عن اسم المؤلف وكان الجميع يعتقد أنه لكانت. ثم أخذت كتبه تنشر تباع، حتى اتُهم بالإلحاد وكثر حوله الضجيج.
وفي بدايات فيخته كان هدفه هو تبسيط فلسفة كانت وتوضيحها، ومن ثم استخراج منها نظريات وفق ما يرتئيه هو، لكن الامر تطور بعد ذلك ليغوص في قضايا اخرى، ربما هو اعتبرها اهم من ذلك ومنها موضوع الحرية، وموضوع الركيزة على نشر العلم، وكان يشيد بسلفه من العظماء، حتى أنه كان يقول: “كل ما هو عظيم وكل ما هو حسن وجميل في عصرنا هذا يرجع كله الى أن رجال الماضي النبلاء الاقوياء قد ضحوا من اجل المبادئ والافكار بجميع مباهج الحياة”.
كتابات ثورية
وكان في كتابات فخته يُشمّ منها رائحة الثورة، وانها ولداعية بحرية الفكر والصحافة خاصة وفهمت على أنّ فيها مسّا بالنظام القائم ودعوة إلى الانقلاب عليه، وكان هذا سببا كافيا لفصله من الجامعة، وفي تلك المرحلة طرأ تغيير عميق على فكره، فقد تحوّل عن نزعته العقلانيّة الحضوريّة المقترنة بيعقوبيّة سياسيّة إلى روحانيّة متعالية وتأليهيّة، وعلى الصعيد السياسي انضمّ إلى الرجعيّة المناوئة لفرنسا وللنزعة اليعقوبيّة، وأرسى أسس القوميّة الألمانيّة.
اثناء ذلك كانت له خطيبة طال الامد وهو لم يقترن بها، حتى اخيرا تم له الزواج منها ليستقر عاطفيا، ويشتري لهما دارا من نقود زوجته، وكان قرار زواجه مخالفا لمبدأ كانت في قضية الزواج. واخيرا طرقت بابه يد النجاح قبل أن يطرق بابه هو، والسبب يعود الى طبيعة القوة بفكره وبعمق كتابته التي اصبحت كشرارة تلهب حماسة المتحررين والساعين للتحرر معا. وحينما كان الفرنسيون قد قاموا باحتلال برلين، فهب فخته يخطب في الشعب الالماني يستنهض هممه: «لقد وقفت الحرب المسلحة مؤقتًا، والمطلوب الآن الجهاد في ميدان الأخلاق والأفكار، يجب العمل على إيجاد جيل قوي يهدف إلى عظائم الأمور ويضحي بنفسه في سبيلها، إن ألمانيا أنجبت لوثير وكانت، وأنتم وحدكم أيها الألمان، من بين جميع الشعوب الحديثة، حاصلون على جرثومة التقدم الإنساني بأظهر ما تكون، فإذا هلكتم هلكت معكم الإنسانية جمعاء».
ومما دعا حماسه ودعمه للثورة أنه حفز زوجته أن تشارك في الحرب لتداوي الجرحى، فأصيبت اثناء ذلك بحمى معدية، فماتت هي ثم الحقها هو بعد اقل من عام.
القضايا التي طرحها
طرح فيخته كثير من القضايا الفلسفية “وتعد نظرية العلم التي أسسها فيخته المنطلق الأساسي لجميع أفكاره ونظرياته الأخرى، إذ يؤكد وجود مذهب كلي متكامل داخل العقل الإنساني، ومن دون هذا المذهب لن تكون هناك معرفة أبداً، فمن خلال المعرفة الكلية يمكن الوصول إلى التفسير الكلي للكون. والفلسفة هي الوحيدة القادرة على الوصول إلى التفسير الكلي للكون. إن العلم هو الكلي، ويقتضي أن يؤسس على مبادئ أساسية يقينية يقوم فيما بينها ارتباط محكم؛ لأن طابع العلم هو اليقين الشامل المنتظم في جميع أجزائه”.
وهكذا عُرفت كتابات فيخته، وآراءه الجريئة، في جميع الاوساط الثقافية على انها ثورة بحد ذاتها، وفلسفة مثالية في الوقت نفسه، تدعو للرفع من شأن الانسان على أنله قيمة، وقيمة حقيقية، وللعقل الدور الفاعل. “وقد مثّلت مساهمات فيخته في الثورة تبريراً قانونياً لها باسم مبادئ العقل، وأداته الحكم الملكي المطلق باسم حرية الفكر، ودعت فلسفته السياسية لإنكار جميع الامتيازات «الكهنة – الإقطاع – النبلاء»؛ باسم العدالة الاجتماعية، فالمصير الإنساني عند فيخته ليس مسألة فردية، إنما هي مسألة مجتمعية حيث يكمن مصير الإنسان في علاقته مع النوع الإنساني كله، فقدر الإنسان هو العيش في مجتمع. بالعلم وحده يمكن تأسيس المجتمع الإنساني، ومعرفة المبادئ الأساسية وهدف الحياة وحاجات الناس مما يساعد على تقدم النوع الإنساني، وبالعلم وحده يمكن أيضاً تأسيس نظام سياسي ملائم للأخلاق المؤسسة على الدين”.
فلسفته:
كان أهم ما في فلسفة فيخته هو اهتمامه بالعلم وطوير قواعده والرفع من شأنه، والتأكيد على الحرية وللسمو بقيمة الانسان، وموضوع الارادة. إذن “الفرض المحوري لفيشته هو أن فاعلية الإرادة الحرة للذات هي جوهر الفلسفة، فيمكن للذات فهم العالم بطريقة موضوعية، لكن لا يمكن أن تكون هي نفسها موضوعًا.. فإن الذات حرة الإرادة يجب ألَّا تُقيَّد بأي شيء خارج عنها؛ فلو كانت قابلةً للتفسير من خلال ما يقيِّدها لَكانت مجرد موضوعٍ تحدِّده القوانين الطبيعية. ويمكن تصوُّر الذوات البشرية مجرد روبوتات شديدة التعقيد، ومع ذلك.. فقدرة الذوات على «التأمُّل» هي التي تؤكِّد على أن هذا لا يمكن أن يكون واقعَ الأمر؛ فما يمكننا من التأمُّل في معرفتنا وفعلنا ليس أية علة من النوع الذي نقابله في الطبيعة، بل حريتنا. ومن ثَمَّ، تنطوي «الأنا» التي يمكنها التأمُّل على شيء «مطلَق»، غير مقيَّد بأي شيء خارج ذاته. وفي التأمل، يُظهِر الذاتي جزءًا من «نفسه» في شيء موضوعي، لكنه لا يفعل ذلك مدفوعًا بشيء موضوعي. والموقف الذي يقرِّر فيه المرء أن يكون ناقدًا لنفسه يمكن أن يوحي بالمراد هنا، فالمرء بفعله ذلك «يردع» نفسه من أجل إعلاء قيمة الدلالة الموضوعية لما يتحتم عليه فعله، وبعبارة فيشته، فإنه يُنظَر إلى العملية الأساسية على أنها «الأنا المطلق» الذي لا ينطوي على شيء يعتمد على شيء غيره، مقسمًا نفسه ومؤسِّسًا بذلك العلاقة بين الذاتي والموضوعي، الأنا واللاأنا”. (أندرو بووي، الفلسفة الالمانية، ص 38)