ـ كنا مجموعة صغيرة تجمعنا مشتركات عديدة.. أهمها: تفوقنا في الدراسة الجامعية.. ونختلف في جوانب أخرى أبرزها توجهاتنا السياسية بما تعكسه من تباينات تجمع بين أقصى اليسار الى أقصى اليمين.. وبالرغم من إن قيس عبد الرحمن محمد عارف “ابن رئيس الجمهورية” كان زميلاً وصديقا لنا.. إلا إننا جميعا كنا من المعارضين لنظام الأخوين عارف: (عبد السلام وعبد الرحمن).. ويبدو أن المعارضة ليس على أساس عقلاني ومبدئي.. بل بعضهم حباً بعبد الكريم قاسم يكرهون عبد السلام.. ولأن حكم عبد الرحمن محمد عارف منح الحرية التامة.. فالشباب يريد ان يستغل الحرية بأوسع مدياتها .. وهذا لن يحدث إلا أن تكون ناقداً لكل شيْ ومعارضاً لكل شيء.. وفق فهم شبابنا آنذاك.. فمنح نظام عبد الرحمن كل معاني السمو من جهة.. وظلمناه من جهة أخرى بنقدنا حتى بأزمة البصل !!
ـ كنا تلتقي عصر كل خميس أمام بناية كليتنا لتبادل الأحاديث.. ونأكل ” المعلاك “.. ونقضي وقتا جميلاً.. لنفترق بعد ذلك كل الى بيته.. في شتاء العام 1967.. وكالعادة.. التقينا أمام الكلية وشاركنا قيس في تناول المعلاك.. وفي ذلك الوقت كان سعر البصل قد ارتفع بشكل جنوني حيث وصل سعر الكيلو الى 200 فلس يعني ارتفع أكثر من خمسة أضعاف.. ولم تكن آنذاك عمليات استيراد لهذا المحصول وجميع المواد الزراعية.. باستثناء بعض الفواكه التي لا تزرع في العراق ( التفاح والموز). لان إنتاجنا الزراعي يكفي ذاتيا العراق.
ـ كنا في تلك اللقاءات نتناول الموضوعات السياسية بمناقشات وحوارات طويلة وعلمية.. ومحتدمة في بعض الأحيان.. وفي ذلك اللقاء أثار زميلنا (عادل حمود) موضوع الساعة عندما قال: “عيني أبو أحمد فد شيش بصل وياك”.. أجابه صاحب المعلاك :”عيني أطلب شيش تفاح ولا تطلب شيش بصل” ضحكنا جميعا.. وبضمننا قيس.
ـ علق عادل قائلاً :”بالله عليكم لو أحنا كنا بالحكم جان قالوا قيادة الطبقة العاملة أكلت البصل” ضحكنا ثانية.. وعقب الأصدقاء كل على انفراد بكلام يدل على توجهاتهم السياسية ونقدهم لنظام عبد الرحمن عارف (والد قيس) لعدم معالجته الجدية لقضايا الشعب الملحة.
ـ وما أن هدأت المناقشات والتعليقات حتى التفت عادل إليً قائلا: “هادي لماذا لم تدلي بدلوك؟ وأضاف: قيس مو صديقك وحدك.. بل صديقنا جميعا”.. في محاولة منه لإثارتي وحملي على توجيه سهام النقد الى نظام الحكم.. ضحكت وقلت له: “عادل أنت تعرف جيداً إنني برجوازي.. والبرجوازية لا تأكل البصل.. بل تأكل التفاح “.. ضحكنا الجميع.
ـ ظل قيس مبتسما.. وبادر قبل أن يسأله عادل عن رأيه.. قائلاً: “أنا مع توفير المواد الغذائية الأساسية بأسعار مخفضة.. بحيث يستطيع المواطن.. خاصة ذوي الدخل المحدود شراءها بيسر”.. ضحكنا مرة أخرى.. واختتمت أنا لقاءنا بقولي: “شتريد عادل بعد الحكومة وياكم”.. وبعد مدة قصيرة عاد سعر البصل الى ما كان عليه.. وظلت علاقاتنا قائمة ولقاءاتنا الساخنة مستمرة.. واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ـ كان قيس كطالب مثلنا في الكلية.. وليس له أية امتيازات تميزه عنا.. لا في الدراسة.. ولا في الدوام.. كما ليس له حماية أو حراسة.. ولا حتى لا يمتلك سيارة خاصة.. ومن لا يعرفه لا يمكن أن يعرف انه ابن رئيس الجمهورية.. كان أنساناً متواضعاً.. وسلوك وأخلاق راقية.. وطالب مجتهد.
ـ وفي الخامس من حزيران 1968.. استغلها البعثيون.. وانطلقوا بتظاهرة كبيرة (في الذكرى الأولى لانتكاسة الخامس من حزيران).. من الباب الشرقي حتى حدائق بارك السعدون ليتجمعوا الى جوار بناية مديرية الأمن العامة.. وتطالب حكومة عبد الرحمن عارف بتشكيل حكومة وحدة وطنية.. ومطالب أخرى لا تقل عن إقامة نظام ديمقراطي.. وإطلاق الحريات العامة.
ـ بعد أيام على هذه الحادثة التقيت قيسا فقلتُ له: الجماعة يطالبون بالحريات؟ ابتسم وقال: “لو لم تكن هناك حريات… كيف خرجوا؟ ووقفوا أمام مديرية الأمن العامة.. وأخذوا حرياتهم بالهتافات ضد الحكومة.. واعتدوا على بعض عناصر الأمن في عقر دارهم ولم يردوا.. ولم يتخذ إجراء على المعتدين.. لو ماكو حريات هل يستطيعون؟؟
ـ بعد أكثر شهر سقط النظام وغادر عبد الرحمن محمد عارف ونجله البكر قيس مجبرين العراق الى لندن.. وتسلم البعثيون الحكم .. وتمر الأيام.. وانقطع قيس عن الدوام في الكلية.. لا نعرف أين حل به الزمان!!.
ـ بعد سنتين التقيتُ قيسا في باحة كلية العلوم السياسية في باب المعظم (الآداب حاليا).. وهو يسأل عني.. كانت مفاجأة قيس يتجول في الكلية بلا خوف.. ولا خشية.. جاء يريد المصادر والكتب والملازم الدراسية.. ليدخل الامتحان.. كل الطلبة الذين شاهدوه تعجبوا من شجاعته وحضوره.
المهم: وعدته أن اجمع له كل متطلباته خلال 3 أيام.. ووجدتها مناسبة وسألته: (كيف حدث الانقلاب ؟).. تحدث بألم ومرارة قائلاً: “لولا خيانة من ائتمنهم أبي لما استطاع البعثيون حتى من الوصول الى بوابة القصر الجمهوري! “فاستفسرت منه.. من تقصد من ائتمنهم أبيك” قال: “عبد الرزاق النايف (مدير الاستخبارات العسكرية).. وإبراهيم الداوود (آمر الحرس الجمهوري).
ـ نقل البعثيون قيسا.. الذي كان برتبة ملازم عمله في لندن معاون ملحق عسكري.. لمدة قصيرة لينقل الى عقره في محافظة دهوك.. لينقل العام 1969 الى قيادة القوة البحرية في البصرة.. استقبلوه البصريون في البحرية بحرارة.. وعناية فوق العادة.. ووضعوه في عيونهم .. كما يقول.. كانت سنين حلوه له في البصرة.
ـ واصل دراسته في كلية العلوم السياسية ببغداد.. وتخرج منها في العام 1973.
ـ تزوج العام 1976.. وفي العام 1977 حصل على قبول للدراسة العليا في الأكاديمية البحرية في الإسكندرية بمصر.. ليحصل خلال سنة ونصف على شهادة الماجستير في (اقتصاديات النقل البحري).. ويعود للبصرة.. ويصبح أستاذاً في الأكاديمية البحرية في البصرة حتى إحالته على التقاعد برتبة (عميد).. بناءاً على طلبه العام 1993.. حالياً يقيم مع أسرته في الأردن.. وما زالت صداقتنا قائمة حتى الآن.. مباشرة.. أو عبر الموبايل.. أو اللقاءات عند زيارته بغداد.. وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ـ أخيراً: أتساءل: هل أصدقاء ابن الرئيس في دول العالم الثالث مثل صداقتنا لقيس بن الرئيس عبد الرحمن محمد عارف بلا مصالح أو استغلال ؟؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الصورة الأولى): الرئيس عبد الرحمن عارف وهو يودع نجله البكر الملازم قيس للذهاب مع الجيش العراقي الى جبهات القتال في 5 حزيران 1967.
(الصور الثانية): حضوري المؤتمر العلمي الأول في الجامعة المستنصرية العام 1970.. وقد شاركت ببحث في هذا المؤتمر ببحث): وأنا الثاني في الصف الأول.
الصورة الثالثة): حضوري في احتفالية للجامعة المستنصرية العام 1973.. أنا الأخير في الصف الأول.