أعظم كتاب تركه لنا ذلك الشاب الطموح، الذي حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة 1813، والكتاب هو (العالم ارادة وتمثلا) وهو خلاصة فلسفته التي فسر بها العالم على أنه عبارة عن ارادة، كإرادة الحياة وارادة الموت، وارادة الانجاب، التي بدورها تعمل كنقيض لإرادة الموت، فالإنسان دائما هو يريد وليس بالضرورة أن تتحقق ارادته، لذلك يشقى وتأخذ الحياة منه الكثير، ولم يحصل على ما يريد ويتمنى، فيعتبرها شوبنهاور عبث.
في كتابه هذا يرى شوبنهاور إن العالم عالمين: عالم التمثل وعالم الإرادة. الاول – التمثل- هو ذلك العالم السطحي الواضح بلا رتوش، المليء بالمعنى والمعقولية. لكن الحفر تحت السطح المنظم لعالم التمثل، سيشق لنا عن حقل من القوى والغرائز العمياء، وهي دوافع بمثابة سراديب لا واعية، تظهر في الطبيعة الخام كقوة الجاذبية مثلا، تشدنا بقوتها. وكقوة حيوية لدى النباتات والحيوانات، وتظهر عند الإنسان في إرادة بقائه، والقوى الجنسية التي تأخذ الدور الكبير في حياة الانسان. فنحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا له أسبابا، بل نحن نجد أسبابا له لأننا نريده.
كان آرثر شوبنهاور ينظر الى الحياة على انها جحيم، وقد جئنا اليها عن خطأ، والمفروض أن نعيش هذا الوجود، فهو الجحيم بعينه، و يا ليتنا لم نعش هذه الحياة ونرتشف كأس مرارتها على مضض. انها نظرة تشاؤمية، وهكذا عُرف عن شوبنهاور أنه فيلسوف تشاؤهمي، ويرى الكثير ممن كتب عن شوبنهاور أن هذه النظرة التشاؤمية جاءت اثر صدمة حينما مات اباه منتحرا. لتصبح أمه ارملة لتتفرغ الى ملذاتها الشخصية، وهي تذكرنا بمدام بوفاري بطلة الروائي جوستاف فلوبير، وتترك ابنها آرثر، بل وتناصبه العداء، حيث كان امرأة مغرورة، كان لها صالون ادبي يلتقي فيها الشعراء والادباء، والمثقفون، حتى وقعت في حب الفيلسوف والشاعر جوتة، وكان هو ايضا يبادلها هذا الحب والمشاعر، التي اصبحت فيما بعد مشاعر جياشة بين الطرفين، رغم تحذير ابنها من مغبة ذلك وخطورة الامر، لكن الامر قد فلت ولا يمكن اصلاحه. دامت القطيعة ما بين الام والابن ما يربو على عشرين عاما، كان الام تكتب قصصا ادبية، ومن ثم تنشرها، وبالمقابل كان ابنها يكتب هو الآخر لكنها تستهان بما يكتب، فكان يقول لها: أنك ستصبحين مشهورة، لا بفضل كتاباتك، بل لكونك أم شوبنهاور. وهذا ما حصل بالفعل.
لهذا السبب وغيره من الاسباب الاخرى كره شوبنهاور المرأة، ورسم صورة قاتمة عنها، وبالتالي قرر أن لا يتزوج، كما فعل استاذه ايمانويل كانت من ذي قبل.
ولد آرثر شوبنهاور في يوم ٢٢ فبراير عام ١٧٨٨، وهو ابن كبار تجار مدينته آنذاك. في العام (1805 م) انتحر والده بسبب خسارة مالية وهمية، كما قلنا، وقد وقع هذا الحدث المفجع على أرثور الابن موقع الصاعقة. الامر الذي قلب مسيرة حياته رأسا على عقب، وربما اضفى عليها حالة من السوداوية، التي ترجمها من خلال فلسفته.
التحق بجامعة غوتينغن في 1809. هناك درس الميتافيزيقيا وعلم النفس على يد الفيلسوف “جوزيف إرنست شولز” وتأثر بشكل خاص بأفكار أفلاطون وإيمانويل كانت وبفلسفة بوذا. وكان فطنا وذكيا. حتى أنه فيما بعد أصبح يتكلم الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ويكتب بها بإتقان، بل ويتعلم إلى جانبها اللغات القديمة كاللاتينية والإغريقية. أتم رسالته للدكتوراه عن الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية سنة (1813 م)، ونشر عمله الخالد (العالم إرادة وتمثلًا) سنة (1818 م)، كما نوهنا، و”عن الإرادة في الطبيعة” سنة (1836 م)، و”أساس الأخلاق” سنة (1841 م)، و”الحواشي والبواقي” سنة (1851 م).
امتازت فلسفته بالميل الى المنحى التشائمي. كان يقول: “كلما تزداد عدد السنوات التي تمُر علينا، فإن الأشياء تبدو لنا أصغر وأكثر تفاهة، حتى الحياة التي كانت تبدو لنا مُستقرة وثابتة فى أيام شبابنا، الآن أصبحت لا شيء سوى مجموعة من اللحظات التي مرّت علينا سريعاً، كُل لحظة منها كانت مُجرد وهم. وقتها نبدأ في رؤية العالم بأكملهُ كما لو أنهُ كله مُجرد سراب وهباء”. وصف شوبنهاور- في نظر الكثير ممن كتب في فلسفته وسيرته الشخصية- الى قمة التفكير الواقعي، فلقد وصف الكون بأنه يسود فيه الشر.
ركز شوبنهاور على نقد الدين، وجه له نقد لاذع، وبرأيه أن الدين يزعم أنه يمتلك الحقيقة والواقع في نظره أن حقيقته ما هي إلا تعويض وتصعيد لمحن الإنسان. ويقرر أنْ للدين لا توجد أية حقيقة، على الرغم من أن للدين وظيفة مهمة بالنسبة للإنسان، الإنسان الذي لا يستطيع استعمال عقله في انشغالاته الميتافيزيقية، يلجأ للدين، الذي بدوره يقدم أجوبة جاهزة، بنصوص كتب منذ مئات السنين. وعليه كان يقول:” الطبيب يشاهد كل الضعف البشري، والمحامي كل الشر، ورجل الدين كل الغباء”.
نشر مقالة بعنوان “عن حرية الإرادة” حاول فيها الإجابة على السؤال الأكاديمي “هل من الممكن إظهار إرادة الإنسان الحرة من الوعي الذاتي؟” التي طرحها المجتمع الملكي النرويجي للعلوم في عام 1839. وفي عام 1851، كتب مقالة بعنوان “النساء” وصف فيها النساء بأنها أقل اعتدالاً وتفتقر إلى القدرة على اتخاذ القرارات. في المقال، أشار أيضاً إلى النساء باعتبارهن “جنس أضعف”. وربما في هذا المقال يشير فيه الى والدته والذي اعتبرها كنموذج واضح لضعف المرأة، بعد ما رأى منها من صدود وجفاء، وعدم اهتمام به كجزء خرج من احشائها، ثم هملته.
بانتقال إلى برلين راح شوبنهاور يستمع إلى محاضرات فيخته و شليرماخر، اذ جذبت شهرة فيخته شوبنهاور إلى برلين، فرحل إليها آملًا أن يجد ضالته في محاضراته، خير ما في الفلسفة، ولكن توقيره المسبق لـ” فيخته” سرعان ما تحول إلى ازدراء وسخرية، ولم يكن حظ شليرماخر بأحسن من حظ فيخته، وقد دون شوبنهاور ملاحظات كثيرة على محاضراتهما، حتى اخيرا اخذ يستهزأ بهما، واعتبر أن تلك المحاضرات فارغة جوفاء من كل محتوى.
قررت جامعة برلين استدعاء شوبنهاور محاضرا جامعيا في الفلسفة العامة سنة (1820 م) فوافق وقرر أن يقدم فلسفته بأسلوب الحوار، ومع مرور الوقت وجد نفسه يتحدث إلى مقاعد خالية؛ أو شبه حالية لم يحضر اكثر من ثلاثة اشخاص، حيث كان الفيلسوف هيغل وشليرماخر في أوج شهرتهما، وكانا ينادیان بمذاهب مضادة لمذهب شوبنهاور، وسبب فشله هو اختيار إلقاء محاضراته في نفس الساعات التي يقوم هيغل فيها بإلقاء محاضراته. فكان الفشل الذريع من نصيبه، فترك العمل الجامعي وتفرغ تماما الى كتاباته الفلسفية، وكان يستعين بفضل الاموال التي تركها له والده.
وكان يقول: “ذوو النفوس الدنيئة يجدون لذة في التفتيش عن اخطاء العظماء”. يريد بذلك أن البشر مهما وصلوا الى درجة رفيعة من المستوى العقلي والعلمي، فهو لابد وأن يقع في اخطاء، وربما مغالطات، وهذا لا يعني اننا لا نتابع الذين سبقونا في العلم والمعرفة والفلسفة، فنسكت عن تلك الاخطاء، وندير لها ظهورنا، بل قصده، أن هناك نفرا من الناس، لا تهمهم انجازات ذلك العالم أو الفيلسوف، بقدر ما يهمه الخطأ الذي وقع فيه، او الامر الذي التبس عليه، بهدف الانتقاص والتسقيط، وابعاد الناس عنهم.
واذا كانت فلسفة شوبنهاور لم تحقق نجاحا في حينما، فبعد رحيله أثرت افكاره الفلسفية وما تزال تؤثر منذ القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا، حتى تجاوز تأثيرها التخصص الفلسفي وثم في الأدب والفن والنظرية النقدية الاجتماعية وعلم النفس، وغير ذلك. حتى أن كثيرا من الكتاب والمختصين بالفلسفة أن يصدرون كتبا في فلسفة شوبنهاور وفي مسيرته وبعالم الفلسفة، هذا العالم الرحب، وهو دليل واضح على نجاح هذا الرجل، حتى وأن كان بعد مماته. فمن الذين كان تأثيرهم بفلسفة شوبنهاور واضحة على ابداعهم الفلسفي والادبي مارسيل بروست، البير كامو، وجان بول سارتر صاحب كتاب (الوجود والعدم) والذي ضمنه الخوض في عوالم الانسان، واعتبر، في كتابه هذا، أن ماهية الانسان سبقت وجوده.
وكان شوبنهاور أخيرا قد اعتزل الناس وتفرغ الى حياته الخاصة بعيدا عن تدخلات الناس السافرة، حتى توفى في ٩ سبتمبر ١٨٦٠ تاركا إرث عظيم تبناه من بعده تلميذه الدؤوب فردريك نيتشه، وهو حديثنا في المقال الآت.