إبراهيم الخياط عرفته شاعرا ثمانينيا ، في قراءات متفرقة لنماذجه ،لم أكن بعد لامست بعدا واحدا من أبعاد شخصيته التي عرف بها وانماز ..كان طالبا في كلية الإعلام ، وحين حضر الدرس الجامعي كنا متعارفين بصفتنا صديقين :صداقة أستاذ بطالب، وكانت المدة التي قضيتها خارج العراق ، قد أبعدت عني كثيرا من الأدباء وانقطعت السبل وأنا أتلمس طريقي بصعوبة بعيدا عن الوطن ..وحين عدت إلى العراق بعد تغيير 2003 المزلزل ، التقيته صدفة في اتحاد الأدباء ، ثم في محفل شعري في كلية الآداب ..وتوسعت معرفتي به صديقا وأديبا حين أصبح طالبا في كلية الإعلام -جامعة بغداد- وفي قسم الصحافة .
يجلس في الجانب الأيمن من قاعة الدرس ، كان مبتسما دائما كأنه بابتسامته هذه يلقي التحية على الجميع وبجبهة عريضة وشعر منسدل ، تبقى ابتسامته تذكرك به وهي علامة سيميائية أشد حضورا في محياه … كان إبراهيم ذا سمت خاص ، لا يعرف فقط بدماثة خلقه بل بمعرفة أدبية واسعة، لم يكن درسنا في جامعة بغداد درسا أدبيا ، فاختصاص الإعلام لا يلامس الأدب إلا من جانب ثانوي ..وهو في كل ذلك ينشر جوا من الحبور الدائم ..كانه يتناسى ألما ما ممضا أو مشكلة من مشكلات حياتنا الكثيرة ، يتناسى كل ذلك كي يمضي في حبوره وسيميائه المحببة .وفي الامتحان يعرف إبراهيم الخياط من إجاباته ، فهو يسهب في الإجابة عن الأسئلة ، دفتره يمتلئ بالكلمات ، لا يترك فراغا إلا ملأه ،جادا إلى أبعد حدود الجدية ، ومن يقرأ دفتره الامتحاني ..يقول: ليكن الطالب على هذا النحو أو لا يكون .
في الدراسات العليا ، كانت الصلة قد توثقت أكاديميا في دراسة الماجستير ..عدد الطلبة قليل وبروز الطالب أكثر وضوحا ، في هذه الدراسة قد وطن النفس على دراسة المسكوت عنه في مقالات أبو كاطع (شمران الياسري) التي كان ينشرها في جريدة الحزب الشيوعي العراقي مطلع الستينات من القرن الماضي، وستكون الدراسة بمنهج التحليل النقدي للخطاب ..وكنا قد أقمنا ملتقيات عدة في كلية الإعلام يحضرها بنشاط إبراهيم الخياط ، على الرغم من مشاغله أمينا عاما لاتحاد الأدباء .. لكن هذا الموضوع يحتاج إلى وقت أطول وتفرغ أساسي ، ففضلنا تأجيله إلى الدكتوراه ، فا ختار موضوعه للماجستير ( مجلة الثقافة الجديدة ودورها الثقافي في العراق ، دراسة تحليلية لمضامين الفنون الصحفية فيها لمرحلة العهد الملكي ) نوقشت هذه الرسالة عام 2016 وكنت أحد أعضاء لجنة المناقشة، يقول ألباحث ” صدر أول عدد من مجلة الثقافة الجديدة في ثشرين الثاني 1953 بتكليف من الحزب الشيوعي العراقي لمجموعة من مثقفي الحزب واليسار الديمقراطي بإصدار مجلة الثقافة الجديدة حاملة شعار (فكر علمي وثقافة تقدمية) . , كان صدورها تتويجا لمبادرات وطنية لإصدار مجلة فكرية علمية اسمها الطليعة ، صاحب امتيازها الأستاذ مهدي الرحيم ومديرها المسؤول الأستاذ المحامي خالد طه النجم وتحول اسمها بعد ذلك إلى الثقافة الجديدة ،لتكون أكثر انسجاما مع أهدافها ومع برنامجها في تلك الظروف من تاريخ تطور العراق .
لعل قصة صدور الثقافة الجديدة في تلك الحقبة – كما يسرد الباحث- مثيرة جدا للاهتمام ، فبعد صدور عددها الأول ، صدر قرار بإغلاقها وسحب امتيازها ..والسبب في ذلك الاقبال على العدد الأول الذي لم يطبع منه سوى ألفي نسخة ، لكن هذا العدد من النسخ نفد بسرعة على غير ما هو متوقع للمجلات الثقافية التي عادة ما يكون تصريفها بطيئا لقلة القراء .
يسرد إبراهيم الخياط قصة مثيرة عن المجلة في العهد الملكي ، تظهر فيها أسماء مثقفين عراقيين دافعوا عن المجلة ، ولم يكونوا منسجمين مع خطها الفكري ، مما يدل على رحابة فكرية لدى النخبة العراقية في ذلك الوقت . فالعراق يرفض التزمت الفكري والانغلاق يقول الخياط” طوال ثلاثة أشهر أعدت هيأة التحرير أكثر من عدد وجهزته في المطبعة ،وتمت الاستعانة بالنائب (عبد الرزاق الشيخلي ) الذي يملك امتياز مجلة اسمها أدب الحياة ، قام صلاح خالص وصفاء الحافظ بزيارته في شارع غازي (شارع الكفاح) خلف سينما غرناطة ، وفيه تم الاتفاق على إصدارالمجلة بكتمان خشية إلغاء امتيازها هي الأخرى ،وقانون المطبوعات كان يسمح بتبديل اسم المطبوع الدوري بمجرد إخبار بسيط من صاحب الامتياز “.
طريق صعب وولادة عسيرة لمجلة الثقافة الجديدة كما أوردها الباحث في عرضه الشيق ليقول” وضعت المجلة خطة جوهرها أن يتم طبع العدد كاملا وحين يجهز، يذهب عبد الرزاق الشيخلي إلى مديرية الدعاية العامة ويسجل الطلب في الواردة لتبديل اسم المجلة من أدب الحياة إلى الثقافة الجديدة ، وبعد أن اتصل الشيخلي بهما تلفونيا وأخبرهما بإنجاز المهمة ، وضعت أربعة آلاف نسخة في سيارة عواد الشيخ علي الذي باشر بتوزيعها على المكتبات بسرعة مذهلة ،وكانت الأولوية للمحافظات فنفد العدد خلال ساعات” . ثلاثة أعداد صدرت في العهد الملكي التي كتب عنها الراحل رسالته للماجستير ..أما العدد الرابع فقد بقي حبيس المطبعة طوال أربعة أعوام حتى طبع وصدر في تموز 1958بعد أيام من قيام ثورة 14 تموز.
لا يمكن تذكر إبراهيم الخياط إلا ويرافقنا الشعر ، فقد أحب الشعر كأكثر الأشياء جمالا في هذا الوجود ، ومنه تفرعت مواهبه بل وخلقه القويم ،فهو شاعر بالقصيدة وشاعر بالسلوك وهو بعد هذا وذاك شاعر ذو إحساس مرهف ..على هذا النحو يمكن وصف شخصيته الفذة ، كأني به في موقفه ووقوفه على القصيدة ، وكذلك في همه اليومي كما قال فوزي كريم في كتابه النقدي : ثياب الإمبراطور” في هذه السنوات قطع الوطن العربي شوطا أسود داميا ، خرائبي بصورة تدعو الى الروع ، فقدان الأمل ،والألم المميت ، أوضح للكثيرين ، أن الشعر الطليعي الحرون ، المتمرد الحارق.. لم يكن في حقيقته غير خطى بائسة تخوض في وحل إيهامها ، المتعدد الأوجه للنفس ،ومعها خطى النقد الأكثر مسعى في الإيهام ،واتضح لهم أيضا أن التكاثر العددي لكتاب الشعر يتناسب طرديا مع ازدياد عمق الوحل ، فكلما انحط النص ، ازداد عدد كتابه ، ثم جاء الإنترنيت ووسائل الإعلام الثقافي المعززة من المؤسسات الباذخة الصرف ، ليعرضا هذه الظاهرة المرضية للضوء من غير مسعى مقصود منها ،توقف كثيرون من أبطال تلك المرحلة الصاخبة عن الهتاف ، وانصرفوا الى أرزاقهم ، البعض انصرف لمراجعة النفس ، والأخر للانتفاع من حكمة اليأس ، وعبر هذه الزحمة الهالكة ظل أفراد ، تفيض أصابع اليد الواحدة على عددهم ، منطوين على إنضاج رؤاهم بمعزل عن الخطى الموحلة ، يغذون حكمتهم بنسغ المرحلة المرير ” .
فوزي كريم يتحدث عن الستينيين وهو المعني بتجربتهم ، لكن ما يقوله يمس أجيالا أخرى ، هل كان إبراهيم الخياط واحدا من القلة ؟ شاعر منطو على إنضاج تجربته على الرغم من كل شيء .. القارئ لشعره قد يجد إجابة ميسورة عن هذا السؤال ، إبراهيم متأن حذر في كتابة القصيدة ، ولم يسارع إلى إصدار ديوان شعري ، إلا قبل سنوات قليلة ، وهومن شعراء الثمانينات ..يقول: “لم أنشر في صحف النظام السابق أية قصية ” وكأنه يشير إلى أن النشر في تلك الصحف فيه مثلبة ما ، ما دامت الحرية مقيدة بل ومنتهكة :
هناك قصيدتي
تحمل فرات الماء
ودولة الثلج
وطفلنا الطائر
ونجمتي المطفأة
في ليل العراق
يخاطب وطنه من المنفى الذي عاش ردحا من حياته فيه ، كما عاش جميع الشعراء منفاهم الخارجي ومنفاهم الداخلي ، ورموزه في كل شعره عراقية تماما ، يتسيدها الفرات سيد الأنهار وسيد العراق ، بطوله الوارف الذي يحاذي دجلة الرمادية اللون .. ونهر ديالى الذي يحاكي عظمة نهرين خالدين .. نهر ديالى الذي عاش إبراهيم قريبا من ضفافه .
ثم يوصل رؤاه إلى مستوى عال من البوح الشعري ، وهو لما يزل في منفاه البعيد .. الشوق والتوق والمحبة والأصدقاء ، والفكر الذي طالما أرقه ، فإبراهيم على غير تزمت ، التزم قضية وطنه من زاوية نضالية اختارها هو كما اختارها كثيرون ، الفكر اليساري عموما .. بسببه اختار منفاه ، بل ذهب إليه عنوة ، وصار مغردا من بعيد ، يتحدث عن الذات كما الآخر ، حين يتحدان ويذوبان في جدول رقراق يسير بثقة الى الوطن ، يقول مصورا الذات حين ياكلها العذاب :
فهل يصمت
في حوار النبيين
هل ستراه يخلع سترة
المعارف الأنيقة
هل يدفع غيمة خوفه
إلى فسيفساء المنافي
وبعد ذلك
أو قبل ذلك
هل لا يقتلونه
هو الذي لا يصمت في حوار النبيين ، وكيف الصمت والكون ضاج حوله وهدفه بين عينيه لن يدفع غيمة خوفه فهناك لابد من ملتقى ومن وجد جديد ، ولابد يوما من ان ينتهي الفصل المدمر والمعطل ،وتعود الكلمات تسير بلا استئذان من أحد ، ولا فيض من عداوة أو قتل .. على هذا النحو ، تكون الكلمة الحرة دليلا على حرية يريدها وينشدها ..وحين يضع تساؤله في نهاية المقطع الشعري ب(هل بعدها لا)، لا يجوز ذلك أهل اللغة ..فلتقع ما دام الشعر يقتضي ذلك ، متلمسا خطى القدماء الذين لا يفرطون بالشعر ولا يفرطون باللغة أيضا ، فما الشعر إلا لغة، لكن الضرورات المقتضية قد يسلكها المرء في ندرة نادرة .
يعود إبراهيم الخياط الى العراق ، بعد التغيير في 2003 يحمل همه بين جفنيه ..شعرا وفكرا ، ليواصل شوطا ما انقطع منذ غربته ، التصق بالشعر أكثر من السابق ، المكوث في الأوطان يحفز الذاكرة الشعرية ، عمل في وزارة الثقافة العراقية قليلا من الزمان ، ليستقيل بعد ذلك كارها المحاصصة الحزبية ، التي وضعت رجلا هو بعيد عن كل توق ثقافي وزيرا للثقافة ، ويكون الخياط بعد ذلك ناطقا باسم اتحاد الأدباء .. الاتحاد الذي أحبه كما أحب قصائده ، وكان طماحه أن يجعل من الاتحاد مرجعية ثقافية ، كما هي المرجعيات السياسية والاجتماعية ، وعمل على تحسين أداء الاتحاد طيلة تسنمه منصب الأمين العام، يحدوه أمل وثقة على الرغم من المرارات الكبرى التي أفرزها واقع التغيير المزلزل ، ساند بقوة تظاهرات الشباب المطالبة بالقضاء على الفساد والمحاصصة ، منذ انبثاقها عام 2010 حتى ثورة العراق الكبرى ثورة تشرين عام 2019 ..
ما كنا ولم نكن لنظن أن يد الموت هي الأسرع لتقتل حلمه الكبير ،وأشواقه الوطنية الكبرى ببلاد ميسمها الحب والعلم والسلام . على هذا النحو وفي عام 2019 كانت نهاية حياة إبراهيم الخياط في حادث قدري عجيب ، وسط ذهول وعدم تصديق محبيه ..وحين أسدل الستار على جسده ، ظلت روحه ومناقبه الكثيرة حية ، نذكرها ونستذكرها كل حين .