23 ديسمبر، 2024 10:16 ص

ابراهيم استنبولي – العاشق السوري للشعر الروسي

ابراهيم استنبولي – العاشق السوري للشعر الروسي

الطبيب السوري ابراهيم استنبولي يذكرني بالطبيب الروسي انطون تشيخوف, الذي قال مرة ان مهنته الطبية هي زوجته , وان الآداب عشيقته , فمهنة ابراهيم استنبولي الطبية هي زوجته الشرعية فعلا , واللغة الروسية وآدابها هي عشيقته , (وهي – مثلما عند تشيخوف – عشيقته العلنية والتي تكاد ان تكون الشرعية ايضا ! ). ولا يمكن لي ان أتصور الطبيب تشيخوف دون عشيقته , وكذلك لا يمكن لي ان اتصور هذا الطبيب السوري دون الشعر الروسي ابدا , اذ اني تعرفت عليه عبر كتاباته عن الشعر الروسي وترجماته لهذا الشعر قبل ان اعرف ما هي مهنته , وكنت اظن انه ( طبيب في الادب الروسي بشكل عام , واختصاصي في تشريح الشعر الروسي بشكل خاص ودقيق ). ولنبدأ من اول الحكاية .
ولد الدكتور ابراهيم استنبولي في سوريا عام 1957 , ودرس بعدئذ في موسكو وتخرٌج هناك , واصبح طبيبا , ولكنه وقع هناك ايضا في حب الادآب الروسية , بل واصبح عاشقا متيما بها , ورجع الى وطنه سوريا طبيبا وعاشقا للادآب الروسية في آن واحد, وأخذ يترجم مختلف اجناس الادب الروسي مباشرة عن اللغة الروسية , وهذه ظاهرة رائعة و جديدة و غريبة و نادرة جدا جدا جدا في عالمنا العربي , وذلك استنادا الى بيت الشعر الذي ذهب مثلا , وهو –
و ما اكثر (الاطباء!) حين تعدهم … ولكنهم في (الترجمات!) قليل.
انتبهت شخصيا الى اسم ابراهيم استنبولي قبل اكثر من عشر سنوات , اذ اثارت اهتمامي ترجماته الجميلة والجريئة جدا للشعر الروسي بشكل عام و المعاصر بشكل خاص , وفهمت من خلال هذه الترجمات ان ابراهيم استنبولي يعرف اعماق مسيرة الشعر الروسي واسراره واهميته للشعب
الروسي , ويعرف ايضا كيف يتقٌبل القراء الروس اعلام هذا الشعر بغض النظر عن كل العوامل الرسمية والسياسية الشائكة المحيطة بالشعر والشعراء في روسيا عبر كل تاريخ الادب الروسي , وقد أدهشتني هذه الخاصية عند استانبولي بكل معنى الكلمة , اذ ان هذا يعني انه كان يتعايش مع هؤلاء القراء الروس ومزاجهم من خلال معرفته العميقة للغة الروسية, وهو الطالب الاجنبي بينهم , وهذا موقف موضوعي رائع وشجاع جدا في الظروف الروسية , ويؤكد على ذكاء خاص ولامع وموهبة متميزة من طالب اجنبي يدرس العلوم الطبية في بلدهم , ولم اشاهد مثل تلك الظاهرة اثناء دراستي في الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن العشرين حتى بين طلبتنا العراقيين او العرب الذين كانوا يدرسون الادآب الروسية بالذات , ما عدا بعض الحالات الاستثنائية والنادرة والقليلة جدا مثل الطالب المصري المرحوم ماهر عسل , الذي كان يدرس العلوم ولكنه كان عاشقا للغة الروسية ولآدابها واصبح في ما بعد مترجما عن الروسية يشار اليه بالبنان كما يقولون ( ماهر عسل وابو بكر يوسف والمرحوم نجيب سرور كانوا يشكٌلون ثلاثيا مصريا في موسكو متناسقا فكريا , و لكني لا استطيع ان استطرد اكثر حول ذلك ضمن هذه المقالة , واتمنى ان أعود لاحقا الى هذا الموضوع المهم في تاريخ العلاقات الفكرية بين العرب وروسيا).
الاشياء التي تثير اهتمام القراء في النشاط الفكري للدكتور ابراهيم استنبولي ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين هي الموضوعة الروسية بشكل عام ,وترجمات متنوعة مختارة من الشعر الروسي المعاصر بشكل خاص , اذ نجد هناك اسماء تسفيتايفا وأخماتوفا ومندلشتام وغوميليوف ويسنين ( كمنجة روسيا الحزينة كما يسميه , وقد أشرت في مقالتي عن ذكرى ميلاد يسينين الى اسم استنبولي ومساهماته في ترجمة شعر يسينين – انظر مقالتنا بعنوان – 120 سنة على ميلاد يسينين ), اضافة الى بوشكين طبعا والذي يعده استنبولي معاصرا ايضا ( وهي ملاحظة جديرة بالاعتبار حقا , اذ ان بوشكين هو الشاعر الحي لحد الان لكافة افراد الشعب الروسي فعلا , ومن
الواضح ان استنبولي اكتسب هذا الرأي وتشبٌع به نتيجة اختلاطه العميق بالشعب الروسي وتفهمه لروحية هذا الشعب ونفسيته وخصائصه )
ابراهيم استنبولي , الذي ( يقدس العقل ولا يشرك به احدا) حسب تعبيره الجميل في تعريفه لنفسه, يرتبط بالنسبة لي بعدة مواضيع اتمنى ان احققها يوما – ما , و بعض هذه المواضيع تستحق حتى ان تكون عناوين اطاريح ماجستير في اقسام اللغة الروسية وآدابها وترجمتها , وكذلك في أقسام الادب المقارن بجامعات عالمنا العربي مثل – ( ابراهيم استنبولي وتسفيتايفا – شاعرة الحب والمعاناة كما يسميها ابراهيم , حيث ندرس ديوان شعر تسفيتايفا بعنوان- كبرياء جريح , الذي أصدره استنبولي عام 2013 ) , و ( ابراهيم استنبولي و يسينين ) , و ( ابراهيم استنبولي وبونين ) , و( ابراهيم استنبولي وباسترناك ) , و ( ابراهيم استنبولي وبوشكين ) , و ( ابراهيم استنبولي والشعر الروسي المعاصر ) , و ( ابراهيم استنبولي والموضوعة العربية في الادب الروسي ) , ولابد من التوقف بعمق حول موضوع – ( ابراهيم استنبولي ورسول حمزاتوف , حيث نتناول كتابه عن حمزاتوف – (مختارات شعرية ) وملاحظاته ومتابعاته (الدائمة الخضرة!) حول الشاعر الداغستاني الكبير ) .
ختاما لهذه الملاحظات السريعة حول (العاشق السوري للشعر الروسي) اود ان اقدم للقارئ نموذجا واحدا ليس الا من ترجماته الرشيقة, وهي قصيدة لمارينا تسفيتايفا –
أشكرك يارب ,
على المحيط وعلى اليابسة,
على الجسد البديع,
على الروح الخالدة,
على الدم الحار,
وعلى الماء البارد.
أشكرك على الحب-
وعلى الطقس أشكرك!