23 ديسمبر، 2024 2:54 ص

ابداع تشيخوف في عالم مورافيا الفني

ابداع تشيخوف في عالم مورافيا الفني

عنوان مقالتنا هو عنوان بحث علمي نشرته مجلة ( فيسنك) التي تصدرها جامعة خاركوف التربوية في اوكرانيا بعددها المرقم 4 (59) لعام 2016 , و هذا البحث بقلم أندرونوفا و جورينكو . العنوان مثير فعلا , او كما كنّا نقول في شبابنا ضاحكين – (يسيل اللعاب) , ومن الواضح انه بحث في الادب المقارن . استوقفني هذا العنوان المتميّز والجديد بالنسبة لي كليّا , اذ لم يسبق لي ان اطلعت على مقارنة بين الكاتب الروسي تشيخوف والكاتب الايطالي مورافيا , وهكذا بدأت رأسا ب(التهام!) هذا البحث , واود ان أعرض للقارئ العربي انطباعاتي عن هذا (الالتهام !) , اذ يبدو لي ان هذه المقارنة المبتكرة بين أديبين متباعدين (من حيث المكان والزمان واللغة والثقافة) ربما ستكون طريفة ومفيدة ايضا للقارئ , الذي يتابع ظواهر الادب العالمي بشكل عام , والادب المقارن بشكل خاص .
القيت النظرة الاولى على البحث اولا, ووجدته مكتوبا باللغة الروسية , رغم ان هناك في بدايته خلاصة باللغة الاوكرانية ثم بالروسية ثم بالانكليزية , وهذه ظاهرة علمية سليمة جدا , ويبدو ان ذلك من مستلزمات النشر في تلك المجلة العلمية الاوكرانية لجامعة خاركوف التربوية . يشغل البحث ست صفحات كاملة من المجلة المذكورة, وتوجد في نهاية البحث قائمة بالمصادرالتي اعتمدها الباحثان , وعددها ( 13) مصدرا , وكلها باللغة الروسية ليس الا. الاشارة الى المصادر وتثبيتها هي ضرورة علمية طبعا في نهاية البحوث كافة , ولكن الذي أثار استغرابي هنا , هو عندما وجدتها فقط باللغة الروسية لبحث يقارن بين ابداع كاتب روسي بابداع كاتب ايطالي , اذ كنت أتوقع ان تكون هناك مصادر باللغة الايطالية ايضا .
اطلعت على هذا البحث بكل امعان , وحاولت حتى ان أقرأ ما بين سطوره ايضا , واود ان أشير- قبل كل شئ – الى اعجابي الشديد بالعنوان , اذ ان صياغته جاءت بشكل دقيق و موضوعي وموفّق جدا , فلا توجد في ذلك العنوان اي اشارة الى ( تأثير) تشيخوف على مورافيا , وانما هناك مفردة ( ابداع ) تشيخوف , وهو ابن القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين في روسيا , ( في العالم الفني) لمورافيا , وهو ابن اواسط القرن العشرين ونهايته في ايطاليا, ومن الواضح جدا , ان هذا العنوان لم يكن عفويا ابدا . ان العنوان لا يوحي , الى ان ابداع تشيخوف قد ( أثّر) على ابداع مورافيا , كما يحاول عادة بعض الذين يكتبون في الادب المقارن , دون ان يأخذوا بنظر الاعتبار , ان ( المتأثّر به ) ان صحّ التعبير, لا يمكن ان يكون اديبا حقيقيا كبيرا , اذ ان القارئ يذهب مباشرة الى ( الاصل) , اي الى ( الذي يؤثّر) , وليس الى ( الفرع) , اي ( الذي يتأثّر به ) , وقضية ( التأثّر ) و ( التأثير) مسألة جديرة بالتأمّل العميق في دراسات الادب المقارن , وهي مسألة تختلف جذريا عن تشابه الموضوعة في نتاجات الادباء , سواء في اطار الادب القومي الواحد او في اطار الادب العالمي عموما , ابتداء من ( حي بن يقظان ) الى ( روبنسون كروزو ) فصاعدا .
يركز البحث على موضوعات تميّز بها ابداع تشيخوف , مثل سيكولوجية العبودية في علاقات البشر بين بعضهم البعض, او , التفاهة التي تسود في الحياة الانسانية الباهتة أصلا , او , ضيق النظرة الجامدة الى الحياة والتعامل معها انطلاقا من ( العلبة! ) التي صنعها ذلك الشخص لنفسه ويريد ان يخضع العالم حوله لمفاهيمه الجامدة , الى آخر تلك الافكار التشيخوفية العميقة التي ترتبط بابداعه . ثم يحاول الباحثان ان يشيرا الى تحديدها او ظهور ملامح منها في ابداع مورافيا هنا وهناك , مستندين الى الترجمات الروسية لبعض روايات مورافيا ليس الا , وكذلك الى الدراسات الروسية حول مورافيا . البحث لا يرسم طبعا صورة متكاملة وشاملة لكل ( العالم الفني لمورافيا ) كما يشير العنوان , ولكنه يحدد فعلا وبشكل صحيح جدا خصائص التشيخوفية , ويحاول ان يجد انعكاساتها في عالم مورافيا الفني , وليس ذلك بالقليل في عالم البحث العلمي للادب المقارن , هذا المصطلح ( اي الادب المقارن), الذي لم يتبلور لحد الان كمادة مستقلة وقائمة بذاتها في الدراسات الانسانية , ولا يوجد قسم خاص للادب المقارن في الجامعات التي مررت بها اثناء مسيرتي , رغم ان قسم اللغة العربية في كليّة اللغات بجامعة صنعاء في اليمن قد كلّفني بتدريس مادة ( الادب المقارن) عندما كنت استاذا زائرا لمدة شهر واحد عندهم , وقد القيت محاضرات بمعدل ساعتين اسبوعيا , ولم يكن لديهم مفردات معينة لتلك المادة , فتناولت في محاضراتي الموضوعة العربية في الادب الروسي عند بوشكين وليرمنتوف وغوغول وتولستوي وبونين , وذلك حسب اختصاصي الدقيق في تاريخ الادب الروسي , وكان الطلبة يتقبلون المادة بحماس لانها جديدة عليهم بكل معنى الكلمة …
ابداع تشيخوف في عالم مورافيا الفني – محاولة مهمة في اغناء علم الادب المقارن وتوسيع مداراته, ولا اظن ان ترجمته الى العربية ستكون مقبولة, لانه يرتبط قبل كل شئ بالترجمات الروسية لادب مورافيا والدراسات الروسية عنه , ولكن الفكرة الجوهرية لهذه الدراسة تمتلك – بلا شك – حيويتها وقيمتها العلمية العميقة …