23 ديسمبر، 2024 1:18 م

إِنَما هيَّ نفوسٌ وضِيعَة

إِنَما هيَّ نفوسٌ وضِيعَة

منذ أكثر من عقدين والعراقيون يتركون البلد مهاجرين إلى بلاد غريبة عسى أن يجدوا فيها الأمان والطمأنينة النفسية بعيداً عن الحروب والإرهاب والحرمان وغيرها مما في هذا البلد من مآس، بل كل ما يفقد الإنسان قيمته. والهجرة قرار صعب يتخذه أي إنسان، ربما هو الأصعب لمن ارتبط بأرضه وله فيها أهل وأحباب وذكريات..ومع هذا يجاهد النفس من أجل نجاتها فيكون قرار الهجرة هو الحاسم. ولا غرابة إن يتخلى الأبناء عن أوطانهم وأهليهم. كما لا غرابة في أن يدع الآباء أبناءهم يرحلون. فكل مطلبهم كما المثل القائل لدى العراقيين (بعيد وسعيد) كل ذلك مفهوم وله مبرراته وأسبابه الطبيعية والمنطقية. ومع ذلك تبقى في الحلق غصة وفي القلب حسرة.
        تعظم الغصات والحسرات عندما يصحب الفراق التخلي، وهنا بمعنى النكران والإنكار. ورغم أن البلاد التي تؤوي المهاجرين لا تشترط أن ينقطع ويتخلى المهاجر عن أهله وأرضه ودينه.. وإن حدث فليس عنوة ولا غصبا، فللإنسان خيارات ولديه قيم ومعتقدات معينة لا يمكن أن تغيرها قوة. قد تكون المسايرة ضرورة في بعض الأحيان في المواقف التي تتطلب ذلك، بمعنى قبول الآخر بآرائه وقراراته حتى حين، كي يقبله الآخر ويبقى ما في النفس كامنا. ولربما يتطلب الأمر العمر كله عندما يقرر العيش عمره في بلد مخالف لمعتقداته قد لا يحبذوها سكانها أو حكومتها، وهو لا يريد أو لا يقوى على تغييرها. يواجه الإنسان معاناة حقيقية عندما تتصارع فيها أفكاره وقرارته ليعيش في بلد غريب عنه، قد تكون أصعب وأشد من تلك الصراعات التي واجهته ليعرف أي القرارين يتخذ، البقاء أم الهجرة.
       رب تعليق في أن كثير ممن تركوا بلدانهم ما واجهوا كل تلك المعاناة، بل على العكس، فمنهم من ذهب سراعا وكأن أبواب الجنة قد فتحت له، ومنهم من لم ينظر خلفه حتى ليودع من بقوا، ومنهم ومنهم…وأقول بل منهم من باع كل شيء.. لينجوا بنفسه.
      غريب وليس بغريب أن هناك من جعل من الغرباء حجة على دينه وبلده وأهله.. في أحد اللقاءات التي يجريها إعلاميون ليطلعونا على حال المهاجرين، مع أحدهم في بلاد الغرب، عندما سُئِل لماذا تركت دينك لتعتنق ديناً آخر، كان رده (وما المانع، فديننا يقول لا إكراه في الدين). !! مثل هذا بدلاً من أن يجعل هذه الآية الكريمة حجة على الآخر ليفهم حقيقة الدين الحنيف وسماحته، ودعوته للإنفتاح على الآخر، فهو يستشهد بها، ويستعمل كتاب الله ليجعله حجة ومبرراً له في اعتناقه الدين الآخر، والحقيقة التي نعرفها، وربما يعرفها البلد الذي يقيم فيه، أنه يحاول الحصول على جنسية ذلك البلد بأسرع الطرق وأقبحها، ولا يضيره عواقب ما قام بها .
     أقول أمثال هذا وغيره ممن باعوا، لا أظن أنهم كانوا مجبرين، ولا أظن أن عيشهم سينقطع إن لم يتركوا دينهم أو أنكروا بلادهم. كما لا أظن أن البلاد التي ينتخون بها تحترم من يتخلى عن معتقده وبلده بهذه السهولة والوضاعة أيما كانت الظروف، إنما هو التحايل والنفاق وتملق الآخر على حساب المقدسات، وحقيقة، إنما هي نفوس وضيعة.