19 ديسمبر، 2024 8:24 م

 الجنس البشري جنس عجيب غريب. هذه المقدمة إن كانت تحوي في طياتها الكثير فهي ليست بمعرفة جديدة وسواء أكانت حقيقة أم لا، ومع ذلك قد تدعو للتعليق أو تثير تساؤلاً ما وربما يكون: وهل ألفنا جنساً غيرنا لنقارن به فنعرف مدى الغرابة فيه أو فينا؟ والجواب بالتأكيد لن يكون على هذا المستوى. إن استغراب طبيعة الجنس البشري قد يصدق عند الجهل بدوافعهم وأسباب سلوكهم، إنما ليس في كل الأحوال، ولو كان الأمر كذلك لكان حري أن لا يقول باريء الإنسان عز وجل والأعلم مُعظِماً ما يأتي الإنسان من فعال بصيغة التساؤل والدهشة والذي يكمن فيه ووراءه علم بالغ ( قُتِلَ الإِنْسانُ ما أَكْفَرَه ) فهذا الكائن البشري يدعو بالشر مثلما يدعو بالخير، ويريد آخرته ويسعى لها كما قد تستهويه عاجلته فينحدر إليها، هذا التناقض العجيب المعروف المجهول، الطبيعي الغريب.. كل ذلك هو ما يجعل البشر ما هم عليه.
   قد يجد البعض أنه ما عاد ما يصدر من البشر عجيباً ولا غريبا، فالمفكر المهتم بطبيعة الحياة وملابسات تعاطي البشر معها وتغيرها وتلونها، وعالم النفس من له في تحليل النفس البشرية وسبر أغوارها، وغيرهم من ذوي الحنكة والفراسة والدراية للوقوف على الأسباب التي تكمن وراء كل سلوك وتفسيره والقدرة على استنباط ما يجول في خلد الإنسان وسلوكه لتصبح أموراً مكشوفة، وأن أي إنسان يمكن فهمه والتنبؤ بسلوكه وحتى التحكم به، وبالـتأكيد لا يمكن نكران كل ذلك مع وجود الحقائق لمن أراد الاطلاع، فالعالم اليوم يقدم لنا نماذج كثيرة في قدرة الإنسان بالتحكم بالإنسان فرداً أو جماعات ومجتمعات باتجاه الخير أو الشر ذلك بحسب الأهداف والنوايا، ولا يخفى على المطلع أن عوامل كثيرة تتدخل في تحديد تلك الوجهات ونواياها، فنرى أفرادا ومجتمعات تتطور وأخرى تتأخر بفعل الإنسان وما يقدم عليه ويقصده في تعامله مع أخيه الإنسان، أو مع عدوه أياً ما قرر. وبين هذا وذاك تكمن حقيقة الإنسان وإنسانيته.
     الإنسانية في اللغة كمفردة أصلها من الإنسان، والإنسان بالمعنى العام للكلمة هو ذلك المخلوق الذي يتميز بما يمتلك من خصائص وصفات فريدة اُختص بها عن باقي المخلوقات الأخرى مع وجود التباين في مستوى تلك الخصائص من فرد لآخر بالمعنى الخاص. والإنسانية كمفهوم فلسفي عميق يخرج عن نطاق ذلك التحديد أو التمييز إلى ما هو أوسع يحوي واقع أن تؤول صيرورته إلى جدوى حقيقية يعمل لها الإنسان نفسه ويحققها، وعندما يكون الاعتقاد بها تصير مذهباً يدعو إليه معتنقه من بين مذاهب مختلفة إما تبتعد عنه وحتى تتعارض معه أو تقترب منه ويأخذ أبعادا واسعة تستند إلى رؤية نظرية عميقة للتعامل الإنساني مع البشر وغيرهم يغلب عليها الطابع الوجداني، ويتحدد هذا التعامل في إطار نفسي وخلقي واجتماعي. تكون نقطة إلتقاء كل من نحى بهذا الإتجاه مع وجود التباينات في مصادر أو منابع نشأته وحتى سبله في أنه يخدم نفس الغايات في النهاية. إن الإنسانية منهج في محتواه وأسسه وغاياته التعامل على وفق مباديء وقيم سامية وواقع عملي لا يتحدد بمكان أو زمان أو جهة، وهذا يعتمد كليا على سجايا الناس، أي أخلاقهم. وإذا حددنا الإنسانية خلقا فهو لا يحتمل في غاياته أية شوائب، وأساساً لا يحتمل غايات أنانية، وهنا نتحدث عن موضوع لطالما كان له موضع في أي فكر قديم أو معاصر، ولا نتحدث عن جنس الإنسان بقدر الحديث عن صفاته وخلقه، لقد شبه الناس قديماً وحديثا فيما يمتلكون من صفات متباينة وبتشبيهات عدة بباقي الكائنات الحية وبمختلف أنواعها وصفاتها، فعلى سبيل المثال يشبه خُلق الإنسان بصنف من الحيوانات والنباتات والمخلوقات الأخرى بما يخدم الصفة، فقد نقول أن فلانا كالجواد الأصيل في عنفوانه، وفي السخاء قد نقول كفيض المطر والنهر الجار، وعكسه في البخل أو الجفاء بالصحراء القاحلة، كما يشبه في العناد بالقول عنيد كالثور وفي الزهو كالطاووس وفي الشدة كالحديد وفي الصمود والثبات كالجبل وهكذا في الوفاء والمروءة وغيرها.. لتقريب الصورة عما يطغى عليه من خلق، هذا فضلاً عن صفات الصورة والمظهر فتعارف الناس على ذلك. وكلما اعتاد الإنسان على صفة أو أكثر من تلك الصفات غلبت عليه ولازمته وتمثلها بخلقه السائد الذي يعرف به، ولا يتوقع الناس أن يأتي بغيره مخالفاً سجيته، كما لا يحسن أن يخرج عنه بنية أو بلا نية. وبالتالي فالخلق عادة يحدد معنىً ومستوىً للإنسانية.
   إن كانت الإنسانية خلقا فالأقوم أن يكون أصله إيمان وأحسنه عمل، إيمان بحقيقة أن الإنسان لا يحيا إلا بوجود الآخر الذي يبادله إنسانيته، وبين الناس ليلبي بعضهم حاجات بعض، فضلاً عن كل ما موجود حوله، الإيمان أن الإنسان سيد كل ما دونه على الأرض راع له رفيق به مسؤول أول عن كل ما يتعامل معه، لهذا، فالإنسانية لا تمثل حالة وجدانية عابرة وليست منفصلة عن العقل، بل لا تقوم إلا بحكمة العقل وتدبيره الذي يرى مديات ما تثمره حركة الإنسان النابعة عن دوافع سامية والممزوجة بالعاطفة النبيلة ما يجعل من الإنسانية بكل مضامينها نهجاً فريدا .
   قد يجد البعض أن الإنسانية كنهج من الصعب العمل به، ويصوره الكثير كحالة مثالية، وقد يجده البعض الآخر ممكنا بدليل أن الناس يعيشون ويتعايشون في تجمعات ومدن وحواضر، أليس هذا نتيجة تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان؟ بينما لا يجد آخر واقعاً لهذا النهج مع وجود مدعيه أو مدعي العلم به بدليل أن الناس ليسوا على وفاق في كل الأحوال، وأن التباغض والتحاسد هو ما يسود بينهم رغم الصورة الشاملة التي توحي بالتعايش فيما بينهم، وهذا كله حقيقة، فالمدعي هنا لا يعي مفهوم الإنسانية، وقد يعيه ولا يتمكن من تحقيقها لتعارض المفهوم مع مصالحه الشخصية، وإن حدث فلا يلتمس التعامل الإنساني إلا ليضمن بقاءه مع الآخر بصورة إيجابية، ولا يقارن بثقل ما قد يحمل من الإنانية.
   وفي واقع الحال، الإنسانية كخلق ويستند إلى الإيمان بفكرة قبل ذلك ليس سهلا الخوض فيه وتحقيقه، حقيقة أن سبيل الإنسانية وعر لا يخلو من العقبات بوجود معسكرات مضادة صريحة أو خفية تلك التي لا تحبذ الفكرة أو لا تؤيدها، وأخرى محايدة وتلك التي لا ترى فيها ثمرة قريبة أو تملأ العين، لذا كانت الحاجة إلى إيمان بها واعتقاد بضرورتها، ويقين بقيمتها، وقدرة عظيمة على تحقيقها، بحاجة إلى صبر وتحد ومقاومة، إنها بحق صفة تنم عن موهبة حقيقية لا تتأتى إلا للقلة، خلق يحاكي صفات الخالق عز وجل، فالله تعالى خلق الإنسان الأول بالخواص البشرية، ونفخ فيه من روحه، فاختلط في نفسه شيء من صفاته عز وجل الكريمة في الرحمة والمروءة والصبر..وأخرى تنزه القدير عنها في الظلم والأنانية والعجل..حتى صار ما يطغى منها يحدد كينونة الإنسان في إنسانيته أو فقدانها، وهذا مناط بوعي الإنسان بتميزه وسعيه في تحقيق هذا الإمتياز في أن يُغلب صفات الإيثار على الاستئثار، يمد يد العون والمرحمة غاية لا وسيلة، فيرسم مشهداً للرقي والسمو والجمال لا تزول ملامحه مع الأيام، ولا تُبخس قيمته عند المكايلة والقياس، مشهداً بليغاً تعصف معانيه وجدانا لا يروق لرائيه غير صورته ولا لسامعه غير وقع كلماته، وجوهراً أخاذاً لا طاقة لكسره ولا حيلة في طمسه فلا يخفى بريقه لكل راء من قريب أو بعيد، وعندما يتحقق ذلك سيكون أمراً عجيباً يدعو للدهشة، إذ يا لها من آثار وجدانية عظيمة ومادية كريمة تلك التي يتركها العمل الإنساني، ويا له من عمار لكل شيء وبكل المقاييس، كما سيكون أمراً غريبا يدعو للتساؤل، أحقيقة أن يوجد ويكون أمر حيث لا مكان ولا اعتراف، وتجاهل للعاملين به ونكران، أحقيقة والبشر كثيرا ما يتسابقون فيما لا حق لهم فيه للتسابق ولا مجال لذلك الإنسان بينهم، ما يسهل على الطغاة والباغين الطريق فلا يترددون عن سحق ما يقف بطريقهم إلى نيل مطامعهم فيمنحوا ألقاب التفاخر الزائفة بأنهم رعاة الناس وحماتهم وبسهولة شديدة مع بغظهم لصفة الإنسانية في حقيقة الأمر، وهم من يظنون أنها لا توصلهم لمآربهم في الفوز بكل شيء وعلى حساب الآخرين، وظنهم أن الإنسانية منهج الضعفاء ولا يفضي إلا إلى الشقاء، إنه حقاً لأمر.
   من الصعب أن يفهم أناني معنى تلك الصفة وغاياتها، فهذا مرتبط بذاته، مثلما يصعب على من يفهمها أن يترك العمل بها، فذلك مرتبط بذات خالقه. لذا فواقعاً ليس كل إنسان حائز على صفة الإنسانية، بل، نرى أن الإنسانية فن فريد أبدعه الخالق المتفرد، لا يدرك معناه ولا يفقه سحره ولا يعمل به ولا يبرع فيه إلا الخالص من عباده، أولئك الفنانون، أولئك الذين يقرأون السائلين ويسارعوا لنجدتهم لئلا يتاح إذلالهم، أولئك الذين يشقون لمعاناة المستعبدين وما يقع عليهم من ظلم وبعتقهم يسعدون، أولئك الذين لا ترتاح ضمائرهم إن سنح لهم العيش الرغيد المترف وهم يعلمون أن هناك من يعاني ويستصرخ من جوع في كل بقاع الأرض، ولا تهدأ نفوسهم حتى يحملوا بين جنباتهم هموم المهمومين ويضعوا أنفسهم موضعهم، ويجاهدوا النفس والعالم من أجل إسعادهم. وبهذا، وبهذا فقط يجدون سعادتهم، وبهذا، وبهذا فقط يحققون إنسانيتهم. كم الدعاة كثر، وكم العالم ينقصه أولئك، كم العالم بحاجة إلى من يثبت إنسانيته، فهلا أثبتﹼ فنك؟ .

أحدث المقالات

أحدث المقالات