23 ديسمبر، 2024 1:51 ص

إيكاروس بغداد بمذاق تمر مر

إيكاروس بغداد بمذاق تمر مر

بينما كانت الحشرات الفضية البراقة ترمي بحممها القاتلة على بغداد عام 1991، اخترت أن أقرأ آنذاك كتاب ريجارد كوك “بغداد مدينة السلام” في مسعى نفسي لترميم أضلاع الجسور المحطمة، وكأن العودة للتاريخ تزيح طبقة الغبار الأسود عن روح المدينة.
اليوم، عادت لي بغداد بذاكرتها وأنا أكمل قراءة رواية “إيكاروس” لزهير الهيتي، النص الذي تستهلكه أزمة معنويات انتابت المدينة منذ تاريخ الثالث عشر من تموز “يوليو” 1958 الذي رسمه الهيتي بطريقة ملهمة وموجعة ومتسائلة، عندما وقفت المدينة على ضفة الدم المسفوح للملك فيصل الثاني.
ثمة ابتكار تقني في “إيكاروس” يمكن أن نسميه عدة روايات في رواية واحدة، ففصول الرواية تبدأ من الرابعة فجرا في ذلك اليوم التاريخي، وتستمر على هذا المنوال حتى تنتهي في العاشرة مساء من نفس يوم الثالث عشر من تموز.
كل فصل في هذه الرواية يكتفي بذاته، وكأنه نص قائم من ذاكرة المدينة التي رُسمت في يوم ما على لسان الملا عبود الكرخي بتمر، لكن ما أقسى مرارة مذاقه.
فعندما يخرج العيارون من جحورهم وقت الكوارث، لا أحد يستسيغ مفردة الضمير، ذلك ما يريد أن يوصلنا إليه زهير الهيتي في هذا النص الذي يكاد يكون قطعة ثمينة من قلب بغداد الموجوع بالسنين. وكأنه يحذرنا من تكرار دورة التاريخ “من قال إنها لم تتكرر بعد مجزرة 1958؟”.
أبطال الرواية من سليمة بائعة اللبن في ضواحي بغداد وابن خالتها الشيوعي الكسول ومرورا بسيدة المجتمع البغدادي المتمدن سهيلة الصفار وعامر الشيوعي الخائن المنهار تحت التعذيب، ومرجانة المشؤومة ضحية المجتمع، حتى جبار لغوة الذي يرى في البروليتاريا بمثابة فتاة سوفييتية فاتنة قادمة إلى بغداد من بلاد ماركس للعمل في ملهى شوقية العورة أو كسياسية لإضفاء العدل في بلاد تحكمها الطبقة البرجوازية.
لا يرتبط كل هؤلاء الأبطال في الرواية مع بعضهم، وإنما بغداد من تجمعهم لتصل إلى لحظة إغلاق باب الفرح بمقتل الملك الشاب فيصل الثاني. لتبدأ بعدها “متوالية السحل” وكأن ماركس نفسه قد تنبأ بها في بغداد عندما كتب مرة “إن التاريخ أعاد نفسه أولاً كمأساة ثم مهزلة”!
كانت براعة الهيتي في أن يجد في إيكاروس معادلا أسطورياً لقصة مدينة اختصرها في نهار واحد، جعلنا نتعرف على أماكن المدينة وبائعات الهوى فيها وموقفهن المشرف في إنقاذ بغداد من فيضان دجلة، وبداية تشكيل ثقافة المدينة ومدارسها ومكتباتها وأغانيها ومطربيها ورساميها.
الهيتي نحت لبغداد وجهاً يعبر عن ملامحها وأوجاعها وأشقيائها وسفلتها ولصوصها وأديانها، وهو يسير بالقارئ إلى تلك الليلة الدموية في قصر الرحاب.
نبوءة الرواية يمثلها مرتاد حانة إيكاروس المختلف عن روادها من الفقراء وغير المتعلمين والقريبين من الأشقياء والمجرمين.
هذا الذي يجعل من إيكاروس بأجنحته الشمعية الذائبة قدراً عراقياً، وهو يقرأ مستقبل بغداد أمام اليوناني بلبل صاحب الحانة، وينصحه بترك البلاد الذاهبة إلى المأساة. فهناك في هذا البلد من عَملَ “ومازال يعمل اليوم” بدأب شيطاني لزمن عنوانه الغدر، فمأساة إيكاروس تكررت في مذبحة قصر الزهور لتستمر متوالية القتل بنفس القوى الشريرة، بدأت عندما افتتح الشيوعيون وليمة الفتك في اتفاق شيطاني والجماهير تجري خلفهم كالوحوش للمجزرة، فالغرائز الثورية والحيوانية ومن ثم الطائفية لا بد من أن تتلاحم حتى يحدث السقوط الكبير لبغداد. وهكذا تنعقد سلسلة الشر المدمر لكل إنجاز حضاري تحقق.
أما الطيبون، وهم بالتأكيد كثر في بغداد، ولسوء قدرها اكتفوا على مر التاريخ بالنظر والتحسر وصفق اليد بالأخرى وقد تُذرف بعض الدموع، لكنهم لم يمدوا لبغداد يد المعونة، أو لأنهم لا يقدرون على ذلك!