دأب الإيرانيون في السعي لتغيير نظام حكم الشاه محمد رضا بهلوي الدكتاتوري الذي صهر جميع المكونات الإيرانية في بوتقة القومية الفارسية، والغارق في أمجاده أسلافه الإمبراطورية، وإهمال شعبه الذي كان يرزح تحت وطأة الفقر، بينما كان يعيش مع حاشيته وأفراد عائلته في ترفٍ قلّ نظيره في التاريخ
تعتبر الثورة الإيرانية 1979 أحد أبرز أحداث القرن العشرين، وحدثاً مفصلياً في تاريخ إيران الحديث. فقد غيّرت هذه الثورة نظام الحكم في إيران من حكم ملكي إلى جمهورية إسلامية، وذلك بعد مصادرة الإسلاميين بقيادة الخميني للثورة الشعبية التي شارك فيها كافة أطياف ومكونات الشعب الإيراني.
كانت السجون في عهد الشاه أيضاً مليئة بالمعارضين السياسيين، ولا سيما اليساريين والإسلاميين، وكانت ترتكب أبشع الانتهاكات بحقهم في السجون. كل ذلك في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تمارسان هيمنتهما على نظامه، وتنهبان موارد البلاد مقابل الحفاظ على حكمه، والتصدي لأي محاولة انقلاب ضده، كما حدث إبّان ثورة مصدق المدنية في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، حيث سعى رئيس الوزراء محمد مصدق المنتخب ديمقراطياً حينها، إلى تحجيم النفوذ البريطاني والأمريكي وإلى تأميم صناعة النفط، وفرض سيطرة الدولة الإيرانية على القطاع النفطي، وإلى تقليل صلاحيات الشاه لمصلحة الشعب، هذه المسألة التي سيأخذها الأمريكيون في الحسبان عند التفكير بتغيير النظام الإيراني لاحقاً.
ولفهم سبب وصول رجال الدين إلى الحكم، وتمكنهم من الانقلاب على الثورة، علينا العودة إلى دور المرجعيات الدينية الشيعية في تاريخ إيران.
لاشكّ أنّ الحركة الدينية الشيعية بقيادة الخميني كانت من أبرز التيارات المعارضة لحكم الشاه، ونتيجة جرأة الخميني في الوقوف ضد الشاه، وتعرضه للاعتقال والنفي، فقد اكتسب كاريزما شعبية، حيث كان حتى قبل انتصار الثورة، وقبل طرحه فكرة “الولي الفقيه” نموذجاً للمرجعيات الشيعية التي كانت تشارك في إدارة البلادة مع الملوك وطبقة التجار، نظراً لاستقلالها مادياً عن المركز، ولما كانت تملكه من نفوذ على الشعب، حيث كانت تقف، على مر التاريخ، في صف الشعب وتمارس نوعاً من الوصاية على حكم الملوك ومراقبة القوانين الصادرة عنهم بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية ومصالح الشعب، لكن دون التدخل في حكم البلاد، وكان بإمكان أي فتوى من إحدى المرجعيات إبطال قانون يصدره الملك، كما حدث في “ثورة التنباك” عام 1891 حيث أصدر الإمام ميرزا حسن الشيرازي فتوى ضد منح ناصر الدين شاه، امتياز بيع التبغ لشركة بريطانية لمدة 50 عاماً، لما كان سيلحق الضرر بالمزارعين الإيرانيين، ما أدى إلى إلغاء الاتفاقية]
انقلاب العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل
كان الشاه محمد رضا بهلوي أثناء فترة حكمه بمثابة شرطي الولايات المتحدة في الخليج العربي، وبمقابل ذلك كان يحظى بدعم لا مثيل له من الأمريكيين في توطيد حكمه وتسليح جيشه، كما أنّ علاقة إيران بإسرائيل في تلك الحقبة؛ أي بين عامي 1953-1979 كان تصل إلى مصاف العلاقات الاستراتيجية من النواحي الأمنية والاقتصادية والسياسية، فكانت إسرائيل تعتمد بشكل كبير على إيران لتأمين احتياجاتها النفطية، كما كانت ممراً يتم بيع النفط من خلالها إلى الأسواق الأوربية، عدا عن أنّ إيران وإسرائيل وجدتا في هذه العلاقة تحالفاً ضد تحالفات جمال عبد الناصر في الشرق الأوسط والتي كانت معادية لتل أبيب وطهران].
لكن مع نشأة الجمهورية الإسلامية تدهورت هذه العلاقة مع الدولتين، وبات العداء لهما شعاراً لها، بحكم دعمهما للنظام السابق، فجاءت أزمة الرهائن الأمريكية، حيث هاجم طلبة موالون للخميني السفارة الأمريكية واحتجزوا 52 دبلوماسياً أمريكياً، رداً منهم على رفض أمريكا تسليم الشاه لإيران بغية محاكمته.]
ومن هنا بدأت القطيعة الأمريكية-الإيرانية وحجزت الولايات المتحدة الأصول الإيرانية في بنوكها وفرضت عقوبات اقتصادية عليها.
لم يعترف النظام الإسلامي الناشئ بإسرائيل كدولة، وقطع كل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها، وتشكلت حالة عداء تجاهها، بسبب تحالفها مع الشاه ومساعدتها له أثناء عمليات الإضراب في القطاع النفطي، حيث كان الخميني يقول إنّ إسرائيل أرسلت عمالاً إسرائيليين للعمل في المنشآت النفطية الإيرانية المضربة عن العمل، في سبيل الإبقاء على حكم الشاه.
لكن السبب الأبرز هو وقوع إسرائيل في مركز نظرية تصدير الثورة الإسلامية، التي تتبنى نظرية الدفاع عن المظلومين ضد المستكبرين، الساعية في جوهرها إلى الهيمنة على العالم الإسلامي وبالتالي الشرق الأوسط، فهي تجد أن الشعب الفلسطيني شعب مظلوم محتل من قبل إسرائيل وعلى الجمهورية الإسلامية نصرة الفلسطينيين، وذلك من باب اللعب على مشاعر المسلمين في جميع أنحاء العالم، وزرع أولى بذور قوتها الناعمة.
تطورت حالة العداء هذه، خلال السنوات اللاحقة، ولا سيما خلال الحرب الإيرانية-العراقية ودعم الولايات المتحدة للعراق على حساب الجمهورية الإسلامية، هذه الحرب التي يعتقد الكثيرون أنّ أحد أهم أسبابها هو محاولة الولايات المتحدة الدفع لحدوث انقلاب على نظام الخميني، من خلال التنسيق بين ضباط في الجيش الإيراني موالين للشاه والجيش العراقي، يضاف إلى ذلك حرب الناقلات عام 1988 بين إيران وأمريكا والتي أسفرت عن تدمير نصف القوات البحرية الإيرانية والكثير من المنشآت النفطية الإيرانية، إضافةً إلى إسقاط البحرية الأمريكية طائرة ركاب إيرانية ومقتل 290 راكباً كانوا على متنها.
تزايد التوتر بين إيران وإسرائيل بعد بتأسيس إيران حزب الله في جنوب لبنان عام 1982، من خلال استغلال وجود الجيش السوري في الأراضي اللبنانية والعمل على تعزيز قوته، ليكون بذلك حزب الله ذراع إيران لتصديع رأس إسرائيل في المنطقة، وتحريك ورقته ضدها حين لزوم الأمر، وأيضاً دعم إيران لحركة حماس الفلسطينية بالمال والسلاح وفتح مكتب يمثلها في طهران عام 1991.
أما خطوات تصعيد إيران ضد إسرائيل فقد بدت جليّاً في الهجوم على السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1992 واستهداف “آميا” مبنى مركز الجالية اليهودية في الأرجنتين عام 1994 والذي خلف 85 قتيلاً ومئات الجرحى، وهو يعتبر أكبر هجوم منفرد ضد الجالية اليهودية في الشتات منذ المحرقة.
تتالى بعد ذلك التصعيد بين إيران وإسرائيل ليطلق المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي في عام 2000 تصريحات يصف فيها إسرائيل بـ “الورم السرطاني” وأنه يجب اجتثاثه من المنطقة، وتصاعد التوتر بين الطرفين خلال فترة رئاسة أحمدي نجاد الذي دعا إلى “محو إسرائيل من الخارطة”.
يضاف إلى ذلك أيضاً، دعم الحرس الثوري الإيراني لحزب الله خلال حرب لبنان 2006، والدعم الإسرائيلي المقابل لحركة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة.
كما عزز النشاط النووي الإيراني من حدة التوتر بين إيران من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، لتتنبه الأخيرتان إلى ما تضمره إيران من نوايا للسيطرة على المنطقة.
مشروع إيران النووي
ظهرت المشكلة النووية الإيرانية إلى العلن عندما كشفت حركة مجاهدي خلق المعارضة للنظام الإيراني، عن وجود نشاط نووي سري تعمل عليه إيران وتقوم بتطويره.
ويعود برنامج إيران النووي إلى خمسينات القرن الماضي، حينما أطلق الرئيس الأمريكي آنذاك آيزنهاور مشروع “الذرة في خدمة السلام” وذلك بعد شعور الولايات المتحدة بالذنب نتيجة استخدامها القنبلة النووية في هيروشيما وناكازاكي في الحرب العالمية الثانية عام 1945. حيث أعلنت الولايات المتحدة عن استعدادها لتقديم المساعدة للبلدان النامية في استخدام الطاقة الذرية للاستخدامات السلمية، وكانت إيران من الدول المبادرة للاستفادة من العرض الأمريكي، فوقع الشاه محمد رضا بهلوي عام 1957 “الاتفاق المقترح للتعاون في مجال البحوث والاستخدامات السلمية للطاقة الذرية” مع الولايات المتحدة، ليتم بعدها تأسيس مركز طهران للبحوث النووية، وتوقيع إيران على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1968 ليتم بموجبها السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتحقيق والتفتيش لنشاط إيران النووي.
بعد انتصار الثورة الإيرانية، أصدر الخميني فتوى بتحريم الطاقة النووية لأغراض عسكرية، واعتبر المشروع النووي الإيراني جزءاً من مشاريع الشاه العبثية، التي كان ينفق عليها أموالاً طائلة بحسب اعتقاده، فتوقف العمل به حتى آخر أيام الخميني نهاية الثمانينات.
حيث يبدو أن القادة الإيرانيون، اقتنعوا بضرورة التسلح بالقوة النووية لتعزيز حكمهم في مواجهة القوى العظمى، وفرض هيمنتهم على المنطقة، فعملوا على تطوير البرنامج النووي، وبناء منشآت سرية خارجة عن الاتفاقية التي وقعها الشاه مع أمريكا، واستقدموا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أجهزة تخصيب يورانيوم إلى إيران عن طريق المافيا النووية، بقيادة عالم الفيزياء الباكستاني عبد القدير خان، حيث عملت على نسخ أجهزة الطرد المركزي من نوع IR1 وصنعت منه مئات النسخ، وكان لتسريب مجاهدي خلق حول نشاط إيران النووي السري، دورٌ كبيرٌ في فتح أنظار الغرب على هذا النشاط، وتوجه مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إيران، الذين شعروا أنّ نشاط الأخيرة، يسير على غير الاتفاق القديم بين إيران والولايات المتحدة، ما استدعى إيران لتوقيع بروتوكول إضافي مؤقت في عام 2003 بحيث يُسمح فيه لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش في أي موقع وفي أي وقت.
لكن المفتشين فشلوا في العثور على مخالفة صريحة من شأنها أن تدين إيران في هذا المجال، وذلك نظراً لبراعة الجانب الإيراني في المراوغة والعمل سرّاً، لكن ساورتهم الشكوك حول نشاط إيران النووي نظراً للحجم الكبير لبرنامجها.
تعهدت إيران بعد ذلك بعدم تخصيب اليورانيوم مقابل تقديم الدعم اللازم لها من الغرب وأمريكا بكميات اليورانيوم المخصب اللازمة لنشاطها السلمي، ومع مرور الوقت زادت شكوك الأوربيين والأمريكيين بالنوايا الإيرانية، وماطلت في تسليم كميات اليورانيوم المخصب لإيران وفق ما تم الاتفاق عليه، إلى أن حدثت نقطة التحول في برنامج إيران النووي وخروجه عن السيطرة عام 2006، حيث نجح الإيرانيون في تخصيب اليورانيوم، بعد توصلهم لقناعة أنّ الغرب لا يفي بتعهداته تجاهها، لتتصاعد بعدها حدّة الجدل حول نوايا إيران النووية، وحاول الغرب التوصل معها لاتفاقات لكنه لم ينجح في ذلك، ليتم تحويل ملف إيران النووي من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس الأمن الدولي، وفرضَ عقوبات أممية على إيران، وتم تجميد أصولها في الخارج.
في الرابع عشر من تموز عام 2015 توصلت إيران مع دول (5+1) وهي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، إلى توقيع اتفاقية العمل الشاملة المشتركة أو ما يعرف بالاتفاق النووي مع إيران، وهو اتفاق سعى إلى احتواء الخطر النووي الإيراني، وتجميده لمدة تتراوح بين 10-15 عاماً.
وكان الاتفاق الذي تم توقيعه يهدف إلى:
التزام إيران بالتوقف عند الحد السلمي لنشاطها النووي بعد تشكل قناعة بإمكانية صنع إيران للقنبلة النووية إن أرادت ذلك.
ألا تتجاوز نسبة تخصيب اليورانيوم 3.67%
عدم استخدام أجهزة طرد مركزي متطورة في عملية التخصيب
بالمقابل يتم رفع العقوبات الاقتصادية تدريجياً عن إيران وتقديم الدعم لبرنامجها السلمي
تجميد النشاط النووي الإيراني لمدة تتراوح بين 10و15 عاماً.
عودة إيران إلى مسار الدبلوماسية العالمية.
تدفقت الأموال على إيران نتيجة تحرير أرصدتها المجمدة في البنوك العالمية، وبلغت قيمتها -بحسب رئيس البنك المركزي الإيراني السابق ولي الله سيف- 32,6 مليار دولار، وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني حينها، أطلق وعوداً كثيرة للشعب الإيراني عن أنّ الاتفاق مع الغرب سيساهم في انتعاش الاقتصاد الإيراني وحل أزمته، لكن حدث العكس، حيث أنفقت هذه الأموال على تطوير البرامج العسكرية والجماعات الموالية لإيران في الإقليم، والتي تسعى إيران من خلالها إلى بسط هيمنتها عليه.
حاولت الولايات المتحدة إدراج ملف الصواريخ الباليستية الإيرانية وتدخلاتها الإقليمية ضمن الاتفاق لكنها لم تنجح في إرضاخ الإيرانيين لهذين الشرطين.
وكانت الضرورة حينها تحتم على الأطراف الغربية القبول بما تم التوصل إليه لما سيسبب امتلاك إيران للسلاح النووي من خطورة ويفتح مجالاً لسباق التسلح النووي في المنطقة.
لاقى هذا الاتفاق اعتراضاً شديداً من الحزب الجمهوري الأمريكي، ومن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وفي مقدمتهم إسرائيل، واعتبروه اتفاقاً واهياً يتضمن الكثير من الثغرات ولا يوقف طموحات إيران النووية، ويأتي في مقدمة هذه الثغرات أحد البنود التي يتضمنها الاتفاق وهو “بند الغروب” والذي ينص على أنّ بعض القيود التقنية المفروضة على النشاط النووي الإيراني تسقط تدريجياً اعتباراً من 2025، ومن بينها حق إيران في استخدام أجهزة طرد مركزية لتخصيب اليورانيوم أكثر تطوراً، والتخوف من وجود برنامج عسكري سرّي، والذي عزّزه رفض طهران عمليات تفتيش للمواقع العسكرية. من المخاوف الأخرى التي ساورت الأمريكيين المعارضين للاتفاق هو أنه في حال ارتكاب إيران انتهاكات – مهما كان حجمها – فإنّ الاتفاق لا ينص سوى على إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وحينها تصبح إيران معفية من التزاماتها النووية، يُضاف إلى ذلك عدم وضع قيود على برنامج الصواريخ الإيرانية الباليستية وتدخلات إيران في دول المنطقة وزعزعة الأمن فيها. كل هذه الأسباب مجتمعة، إضافةً إلى الضغوطات الإسرائيلية، سيما بعد سرقة الموساد كميات كبيرة من الوثائق من داخل منشآت نووية إيرانية تكشف من خلالها عن وجود نشاط نووي سري إيراني، دفعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إعلان الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران في 8 أيار 2018، وفرضه عقوبات تاريخية على إيران، وممارسة سياسة الضغوطات القصوى لإرضاخ إيران على إبرام اتفاق بصيغة جديدة.
أدت هذه السياسة إلى ردود فعل إيرانية، ورفضت إيران بشكل قاطع الرضوخ لقائمة المطالب الأمريكية وكثفت من نشاط الجماعات الموالية لها ضد المصالح الأمريكية وحلفائها، ومارست سياسة “التصعيد الأقصى”، فشنت هجمات على ناقلات للنفط في الخليج العربي وقصفت منشأة أرامكو السعودية، وزادت من رقعة انتشار هذه الجماعات وتمركزها، ولا سيما على الحدود الجنوبية لإسرائيل في سوريا، ودعمتها بالصواريخ الدقيقة الموجهة والطائرات المسيرة، وكررت استهدافها للقواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وزادت وتيرة هذه الهجمات بعد اغتيال الرجل الثاني في إيران قاسم سليماني قرب مطار بغداد في مطلع كانون الثاني 2020.
بالتوازي مع ذلك، حفضت إيران من التزاماتها النووية، وزادت من نسبة تخصيب اليوارنيوم بوتيرة متزايدة، إلى أن تجاوزت نسبة التخصيب 60%، وهذا ما اعتبرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمثابة ناقوس خطر، وحذرت من أنّ إيران على عبة امتلاك القنبلة النووية.
إسرائيل وسياسة الحرب بين الحروب (حرب الظل)
تدرك إسرائيل جيداً أنّ الخطر الإيراني بات يطوقها من كل صوب، حيث تسعى إيران إلى امتلاك القنبلة النووية، وهي بذلك تشكل تهديداً كبيراً لأمن إسرائيل في ظل حالة العداء القائمة بين الدولتين منذ أكثر من أربعة عقود، كما تدرك أيضاً أنّ المشروع الإيراني في المنطقة يستهدف وجودها بالدرجة الأولى، وهي تعمل على ذلك منذ سنوات، ويتمثل ذلك في إنشاء طوق ناري حول إسرائيل، يتمثل في “الهلال الشيعي” وهو يسمى في العقيدة العسكرية الإيرانية “سياسة عدم الوصول” أو “العمق الاستراتيجي” ، وتسعى إيران من خلاله إلى التواجد في المناطق الحيوية والحساسة لـ “العدو” وتشكيل حالة تهديد دائمة له، والاستفادة من هذا التواجد من خلال وكلائها، لخوض حرب غير متكافئة وغير تقليدية في حال قررت الولايات المتحدة وإسرائيل شن هجوم عسكري على إيران.
تستغل إسرائيل وضع إيران الحرج والضغوطات التي تواجها على كافة الأصعدة، وتشنّ حرباً غير معلنة على التواجد الإيراني في سوريا، وفي الداخل الإيراني.
وبرز ذلك من خلال:
استهداف المواقع الإيرانية لمنع تحولها إلى قواعد عسكرية تشن هجمات ضدها، وبلغ عدد الهجمات أكثر من 500 ضربة جوية وصاروخية خلال عام 2020.
اختراق الداخل الإيراني استخباراتياً من خلال الموساد، واغتيال العلماء النوويين الإيرانيين وكان آخرهم أب البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده.
ضرب المنشآت النووية الإيراني والمواقع الحيوية في العمق الإيراني.
التمركز في أذربيجان الحليفة لها والتي تعتبر بمثابة عين استخباراتية على إيران.
إدارة بايدن وطريق الدبلوماسية المحفوف بالعقبات مع إيران
تعمد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ توليها سدة الحكم، إلى اختيار الطريق الدبلوماسي لحل أزمة الاتفاق النووي مع إيران، الذي بات فارغاً من معناه في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من عدم رضا إدارة بايدن على سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب في تعاطيه مع المشكلة الإيرانية، وتحميله التبعات الناجمة عن الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي والتصعيد الهائل ضد إيران والذي ولّد التوتر القائم في المنطقة، نتيجة ردود الفعل الإيرانية، إلا أنها تحافظ على جزء مهم من ميراث ترامب، لا سيما فيما يتعلق بعدم التنازل لإيران عن رفع العقوبات بشكل كامل عنها، وإصرارها على توسيع الاتفاق الموقع عام 2015 مع إدارة أوباما.
ولعلّ السبب الأبرز في عدم رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة بالاكتفاء بإعادة إيران إلى قمقمها النووي- على الرغم من أنه يأتي في الدرجة الأولى من الخطورة- هو الاختلاف والتطور الخطير الذي باتت تشهده المنطقة، بسبب التصعيد الإيراني.
حيث باتت خطورة البرنامج الصاروخي الإيراني، ونفوذ إيران في المنطقة من خلال وكلائها، وسيطرتها على قرار عدة عواصم عربية، إضافةً إلى ترسانة الطائرات المسيرة التي تضعها في خدمة وكلائها، تشكل قلقاً كبيراً للولايات المتحدة وحلفائها، ما يحتم ضرورة إيجاد مخرج من اللعبة المعقدة التي أوقعت إيران نفسها والدول الأخرى المعنية بالأزمة الإيرانية فيها.
ومن هنا جاءت مبادرة الاتحاد الأوربي لإحياء الاتفاق النووي، ومحاولة التوصل إلى حلول بين الولايات المتحدة وإيران، من شأنها أن تنزع فتيل الأزمة بينهما.
حيث عقدت أولى جولات مباحثات فيينا بين إيران ومجموعة ما يعرف بدول (4+1) وهي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، في 6 نيسان/أبريل 2021، بعد أن رفضت إيران مقترحاً أوربياً لمشاركة الولايات المتحدة بشكل مباشر في هذه المباحثات.
وعلى الرغم من وصول هذه المباحثات إلى جولتها الثامنة، والتصريحات المتناقضة التي تصدر في كل حين عن مسؤولي الدول المشاركة في المباحثات، إلا أنّ الغموض مل يزال يكتنف هذه المباحثات، وما يزال يصعب التكهن بالنتيجة التي سيتمخض عنها هذا الاتفاق.
لكن بحسب التسريبات ومتابعات المحللين، يبدو أنّ كلا الطرفين، الأمريكي والإيراني، يحاولان أن يدفع أحدهما الآخر إلى تقديم تنازلات تقوّي موقفه.
فالولايات المتحدة تطالب إيران بالعودة إلى التزاماتها النووية التي تعهدت بها عام 2015، بحيث تنزل مستوى تخصيب اليورانيوم إلى النسبة المتفق عليها للأغراض السلمية، وتعود لاستخدام أجهزة الطرد المركزي غير المتطورة في عمليات التخصيب، ولا تعرقل عمليات التفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مقابل رفع جزء من العقوبات المفروضة على إيران، وهي العقوبات المتعلقة بالملف النووي فقط. في حين تطالب إيران رفع الولايات المتحدة جميع العقوبات التي فرضتها عليها إدارة ترامب بدون شروط مسبقة، لتعود إيران إلى التزاماتها، ومنها تلك العقوبات المتعلقة بالتدخلات الإيرانية في المنطقة وحقوق الإنسان، وإغلاق ملف تفتيش المنشآت السرية، والعقوبات المصرفية والنفطية وإخراج الحرس الثوري من قائمة الإرهاب.
كما تطالب إيران بوضع آلية للتحقق من رفع كامل العقوبات، إضافةً إلى الشرط الأهم الذي تشترطه إيران وهو ضمان عدم انسحاب الإدارات الأمريكية القادمة من أي اتفاق يتم التوصل إليه، وهو ما تعتبره الولايات المتحدة شرطاً يستحيل تحقيقه، لأنه يتعارض مع القوانين الأمريكية التي تنص على حق أي إدارة جديدة إلغاء مثل هذه الاتفاقيات.
في إطار التمكن من إيجاد ثغرة في جدار الحل للمشكلة النووية الإيرانية، رفضت إيران أيضاً مسودة اتفاقية مؤقتة قدمتها روسيا، وتنص على أن تتوقف إيران عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% وتسلم مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب إلى روسيا، مقابل حصول إيران على مليارات الدولارات من عائداتها النفطية المجمدة في البنوك العالمية، بما فيها كوريا الجنوبية]
فالإيرانيون باتوا يمارسون نوعاً من الضغط على الأمريكيين لنيل أكبر المكتسبات من خلال هذه المباحثات، ويتجلى ذلك في قول المتحدث الرسمي باسم وزراة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده: “نتفق على كل شيء أو لاشيء”، ويستند الضغط الإيراني إلى تعقّد صراعها مع الولايات المتحدة، في ظل امتداد تأثيرات هذا الصراع على الوضع الإقليمي والدولي برمته، ومن هذه الصراعات تعقيد أزمات دول الإقليم التي باتت إيران تمتلك فيها نفوذاً عسكرياً، والتهديدات المستمرة لإسرائيل، وتهديد أمن الخليج والملاحة البحرية في مياهه. فضلاً عن تجلي سياسة توجه إيران نحو الشرق وتوقيعها اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين لمدة 25 عام، وسعيها إلى عقد اتفاق مشابه مع روسيا، لترسل بذلك رسائل أنها تمتلك خيارات أخرى في حال عدم التوصل إلى تسوية ترضيها مع الولايات المتحدة والغرب.
لكنّ التحديات كبيرة أمام إيران أيضاً، وهي في وضع لا يسمح لها بالمضي قدماً في سياسة “التصعيد الأقصى” التي انتهجتها رداً على سياسة “العقوبات القصوى” الأمريكية في عهد ترامب، وأصبح من الجليّ أنّ الولايات المتحدة ليست بوارد تقديم تنازلات جوهرية لإيران أو المساومة على أمن قواعدها وأمن حلفائها، سيّما وأنّ الإدارة الأمريكية الجديدة نجحت في إحداث تغيير ملموس في مواقف الدول الأوربية، وباتت تمارس هي الأخرى ضغوطات على إيران للعودة إلى التزاماتها في الاتفاق النووي، بعد أن تلمست الخطورة في سعي إيران إلى زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم.
لا يفوتنا هنا أنّ دول الترويكا الأوربية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) انبرت للوقوف في وجه الولايات المتحدة والوقوف في صف إيران، بعد انسحاب الأولى من الاتفاق النووي بشكل أحادي، حينما تقدم طالبت مجلس الأمن الدولي بإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران وتمديد حظر شراء الأسلحة عليها، وكان هناك إجماع من القوى الكبرى في مجلس الأمن أنّ الولايات المتحدة تواجه مشاكل قانونية في تفعيل “آلية الزناد” التي تنص على إعادة فرض العقوبات ما قبل 2015 على إيران، لأنها لم تعد طرفاً في الاتفاق.
إذاً نستخلص من ذلك أنّ الولايات المتحدة بدأت بتحشيد القوى الدولية ضد إيران، وقد نجحت بالفعل بفرض رؤيتها على الدول الأوربية، بل وحتى على روسيا التي كانت تستند إليها إيران في مجلس الأمن، وقد أصبحت ورقة أوكرانيا بيدها الآن أكثر فعالية من ذي قبل، فإما أن تتخلى روسيا عن إيران أو استخدام نفوذها للضغط عليها من أجل توقيع اتفاق وفق الشروط الأمريكية، أو أنها ستواجه حرب استنزاف طويلة الأمد في أوكرانيا، ومواجهة المصير الذي واجهه الاتحاد السوفييتي سابقاً في أفغانستان، كما أنّ الدول الأوربية أصبحت اليوم في مواجهة الخطر الروسي، وعليها إعادة ترتيب أوراقها واصطفافها إلى جانب الولايات المتحدة في مسار استراتيجيتها.
وبالتزامن مع هذا التحدي الخطير الذي باتت إيران تواجهه، حددت الولايات المتحدة موعداً نهائياً لإيران للعودة إلى التزاماتها في الاتفاق النووي خلال أيام، أو سيتم إعلان موت الاتفاق النووي، ولا شك أنّ ذلك سيكون له تداعيات كبيرة على إيران في حال استمرت بالتعنت، وقد يحال ملفها إلى مجلس الأمن الدولي يتم اتخاذ قرارات حاسمة ضدها وبإجماع دولي هذه المرة.
وهذا ما أكد عليه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في 1 آذار/مارس الجاري، بقوله أنهم “مستعدون للانسحاب من المحادثات النووية، في حال تشددت إيران في موقفها، وأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها وشركاءها سيتبعون خيارات بديلة، إن لم تكن إيران راغبة في المعاملة بحسن نية”.
وهذا يقودنا إلى التفكير في أنّ جزءاً كبيراً وفعالاً من موروث الرئيس الأمريكي السابق ترامب ما زال حياً، ويتم العمل به في الإدارة الجديدة، ونتذكر كيف أنّ ترامب قال عقب انسحابه من الاتفاق مع إيران أنه سيرغم إيران لعقد اتفاق أفضل من السابق.
إيران وسوريا وجذور التحالف بينهما
تمتلك سوريا مكانة بالغة الأهمية في العقيدة العسكرية الإيرانية، فهي تُعتبر حلقة وصل مهمة لها لإكمال مشروعها الذي يمتد من طهران إلى العراق فسوريا ولبنان، وذلك للإحاطة بمناطق النفوذ الأمريكية ومحاصرة إسرائيل، بجيش من الجماعات الموالية لإيران، قادرٍ على إدارة حرب بالوكالة ضد إسرائيل على مساحة جغرافية واسعة.
تعود جذور العلاقات بين سوريا وإيران إلى عام 1979، أي بعد انتصار الثورة الإيرانية، ولم تقف الاختلافات البنيوية بين النظامين عائقاً أمام تشكيل هذا التحالف الاستراتيجي، فالنظام السوري هو نظام علماني ويستند إلى مبادئ حزب البعث الداعم للعروبة، في حين أن النظام الإيراني هو نظام إسلامي متشدد ويناهض العرب.
توفرت أسباب موضوعية لنشوء هذا التحالف، حيث أصبحت إيران حينها في عزلة دولية، وفي العام ذاته وقّعت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل، فخشيت سوريا أيضاً من العزلة بعد فقدان حليفها المصري في مواجهة إسرائيل، لذا كان مثل هذا التحالف ضرورياً لكلا البلدين.
تعزز هذا التحالف خلال الحرب الإيرانية- العراقية، حيث وقفت سوريا إلى جانب إيران ضد العراق وذلك لكون العراق خصماً للطرفين، وأيضاً بسبب العداء المشترك لكل من حافظ الأسد والخميني لصدام حسين.
ازداد تعزيز هذا التحالف بعد الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 بسبب تخوف البلدين من مصير مشابه، وبعد سقوط نظام صدام حسين أصبحت سوريا ممراً لتهريب الأسلحة والخبراء العسكريين الإيرانيين إلى حزب الله، الذي تأسس في لبنان عام 1982 بالتعاون بين سوريا وإيران، للترويج لفكر الخميني، وليكون بمثابة رأس حربة لعدوهما المشترك إسرائيل.
الأزمة السورية والتدخل الإيراني
مع خروج المظاهرات في سورية عام 2011، استشعرت إيران بخطر النار التي اندلعت في جزء مهم مما تعتبره “عمقها الاستراتيجي”، فسارعت إلى مساندة القوات النظامية لإخماد المظاهرات والسيطرة عليها.
ومع تسلح الحراك الشعبي المطالب بتغيير النظام، وتشكل فصائل مسلحة معارضة مدعومة من دول خليجية ومنها السعودية، ازداد انخراط إيران في الصراع السوري من خلال الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني، فيلق القدس، والميليشيات المرتبطة به، وذلك نظراً للقناعة الراسخة لدى إيران أنها مستهدفة في هذا الصراع من قبل هذه الدول التي وجدت في تغيير النظام السوري فرصةً لها لمواجهة للتمدد الإيراني في المنطقة.
خسرت إيران في الحرب السورية آلاف العسكريين بينهم قادة كبار في الحرس الثوري، كما أنفقت ما يقارب 30 مليار دولار في سبيل صد المعارضة المسلحة، وتعزيز نفوذها في البلاد وفي المؤسسات الأمنية والعسكرية ومراكز صناعة القرار، وقد نجحت إلى حد كبير في توسيع سيطرتها على الأراضي السورية، ولا سيما في الجنوب السوري ودير الزور والمناطق الوسطى، الأمر الذي يخولّها للاستفادة من الورقة السورية في مواجهة خصومها، وبذلك حولت الصراع الداخلي السوري إلى حلقة من صراعها الإقليمي والدولي، وهذا كان أحد أهم الأسباب في تعقد الأزمة السورية وعدم التوصل إلى إيجاد حلول لها.
بعد تمكن المعارضة السورية المسلحة من استعادة رقعة واسعة من الأراضي السورية، دخلت روسيا على خط الصراع السوري، وذلك بموجب طلب رسمي تقدمت به دمشق إلى موسكو لمساندتها، فتدخل الطيران الروسي لقصف مواقع تنظيم داعش وفصائل المعارضة السورية، مدعومة بالقوات الإيرانية والقوات النظامية السورية على الأرض، ليتم استعادة المدن الواقع تحت سيطرة المعارضة تباعاً. هذا التدخل جاء بالتنسيق مع الإيرانيين لتحقيق الهدف الإيراني- الروسي المشترك وهو منع النظام السوري من السقوط. وعلى الرغم من التقارير التي أفادت أنّ التدخل الروسي تم بعد إقناع قائد فيلق القدس حينها قاسم سليماني للرئيس الروسي بوتين في زيارته السرية له في 24 تموز/ يوليو 2015، للتدخل في سوريا وتغيير المعادلة على الأرض.
لكن التسریبات الصوتية التي انتشرت لمحمد جواد ظريف تؤكد أنّ بوتين كان قد قرر
الدخول في الحرب السورية قبل زيارة سليماني له، وهو يرى أنّ الروس هم من جرّوا القوات الإيرانية البرية للتدخل في سوريا على نطاق واسع، في الوقت الذي كان الوجود الإيراني هو من خلال جماعات سورية وعربية وأفغانية ومتطوعين آخرين، بحسب ظريف الذي يبيّن أنّ هدف الروس من إقحام إيران في سوريا، كان لتقويض الاتفاق النووي الإيراني مع القوى الغربية.
ومن خلال ذلك قد يتضح لنا أنّ الروس استخدموا الإيرانيين كورقة مزدوجة تتمثل في دعم بقاء النظام السوري، وإدارة صراعهم مع الولايات المتحدة من خلال إفساح المجال للإيرانيين للتمركز في سوريا وتصديع رأس أمريكا بالتوسع الإيراني في المنطقة، الأمر الذي انتهى في نهاية المطاف بانسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، وزيادة حدة التوتر بين الطرفين، بعد تصفية سليماني والتداعيات التي نتجت عنها من قصف القواعد الأمريكية وتهديد أمن إسرائيل في المنطقة من قبل وكلاء إيران في العراق وسوريا، واكتساب الدور الروسي في سوريا أهمية بالنسبة لإسرائيل، من خلال التنسيق المشترك بينهما في استهداف المواقع الإيرانية داخل سوريا، وبالتالي سعي إسرائيل لإقناع الولايات المتحدة بأهمية هذا الدور في درء الخطر الإيراني عن حدودها، لينتهي ذلك في النتيجة إلى تشكل نواة التوازن الأمريكي- الروسي في سوريا، وأخذ الوجود الروسي بعين الاعتبار في أي قرار متعلق بالأزمة السورية.
صراع النفوذ بين إيران وروسيا في سوريا
بعد إلحاق الهزيمة بالمعارضة السورية المسلحة، واستعادة سيطرة النظام السوري على مساحات واسعة من الأراضي السورية، بدأ الصراع الروسي-الإيراني يطفو على السطح، فكلا الطرفين يسعى لتحقيق مكاسب اقتصادية للتعويض عن النفقات الهائلة التي أنفقاها خلال الحرب التي خاضاها، والاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار، وذلك من خلال تعزيز وجودهما.
فعلى الرغم من الحالف التكتيكي الذي نشأ بين الدولتين في سوريا، لمواجهة التدخل الغربي فيها، إلا أن الصراع على النفوذ، واختلاف وجهة النظر حيال الأزمة السورية، زاد من الشرخ بين الطرفين، ويمكن إيجاز أوجه الخلاف بين الطرفين في النقاط التالية:
تسعى روسيا إلى حل مشاكل النظام مع محيطه العربي، الذي هو على درجة من الأهمية بالنسبة لروسيا، إلا أن إيران تعمل على العكس من ذلك، وتجد في توسيع الهوة بين النظام السوري وحاضنته العربية، وزعزعة الاستقرار في البلاد والمنطقة بشكل عام، ترسيخاً لوجودها، إذ أنّ لدى إيران قناعة مفادها هو أنّه كلما زاد استمرار أزمات المنطقة دون وجود حلول لها، كلما زادت المكاسب الإقليمية لها.
خلاف روسيا مع إيران بشأن تنظيم إيران للعديد من الميلشيات في سوريا التي تساند الجيش النظامي السوري، حيث ينصب تركيز روسيا على الحفاظ على الحكومة السورية المركزية، ودعم الجيش وتسليحه لضمان عدم الوقع في حالة من الفوضى يصعب السيطرة عليها، وكان تأسيس الفيلق الخامس من قبل روسيا بمثابة تحجيم لدور الميلشيات الإيرانية في سوريا.
تعتبر إيران بقاء الأسد في السلطة هدفاً رئيسياً لها، في حين أن اهتمام روسيا يتركز على بقاء الدولة السورية ومؤسساتها الشرعية والتوصل إلى تسوية سياسية بين النظام والمعارضة وبتوافق مع المجتمع الدولي.
4- عدم رضا إيران عن كل الاتفاقات التي توصلت إليها روسيا مع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية، مثل اتفاقية “وقف الأعمال القتالية” عام 2016 مع الولايات المتحدة، و”خفض التصعيد” التي تم التوصل إليها في مفاوضات “أستانة 4” بين روسيا وتركيا وإيران.
5-العلاقة الروسية-الإسرائيلية في سوريا، والتنسيق بينهما لاستهداف المواقع الإيرانية على الأراضي السورية.
الموقف الروسي من القضية الكردية في سوريا، ومحاولات روسيا إيجاد حلول لها مع حكومة دمشق، في الوقت الذي تتخوف فيه إيران من تشكل كيان كردي رسمي في سوريا، وتأثيره على القضية الكردية داخل إيران، بل وحتى قضايا المكونات العرقية الأخرى على أراضيها التي تعيش حالة احتقان كبيرة ضد النظام الإيراني.
تخوف روسيا من منافسة إيران لها في سوق الطاقة العالمية، من خلال طموح الأخيرة في الوصول إلى البحر المتوسط لتصدير الغاز الطبيعي إلى العالم.
لكن كل هذه الأسباب الخلافية التي تشكل تحدياً كبيراً للطموحات الروسية في سوريا، لن تدفع روسيا إلى التخلي عن الورقة الإيرانية، وستتوازى لديها محاولات تحجيم النفوذ الإيراني مع المحافظة عليه، ما دامت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة حاضرة في الأزمة السورية، وقد نكون أمام تصعيد أكبر ضد النفوذ الإيراني في حال انسحاب هذه القوى من سوريا.
من مجمل ما سبق، يتضح لنا أن إيران تنظر إلى نفسها كدولة إقليمية مهمة في المنطقة، وهي ترى أنه لا بدّ أن يكون لها الدور الأبرز في قضياها، وهي تسخّر في سبيل ترسيخ هذا الدور جميع أدواتها، بدءاً من تطوير القوة النووية لديها لتشكيل قوة ردع لخصومها، ومشروعها العسكري العابر للجغرافية الإيرانية، وتطوير برامج الصواريخ والطائرات المسيرة، التي يتم تطويرها في مدن تحت الأرض، وفق ما أكد الحرس الثوري الإيراني مؤخراً، بوجود مدينتين تحت الأرض لهما، ويصل مدى بعض الطائرات فيها إلى 2000 كم.
تلجأ إيران أيضاً إلى القوة الناعمة في الدول التي تريد الهيمنة عليها، وتتمثل بالترويج للثقافة الشيعية والحضارة الإيرانية الإسلامية، وتأسيس حاضنة شعبية شيعية موالية لها من خلال عمليات التغيير الديمغرافي، كما هي الحال عليه في عدة مناطق في سوريا ومنها الغوطة الشرقية وريف حمص، وتوطين عوائل عراقية شيعية، فيها وهذا الطموح في الهيمنة في داخل المنطقة يتصادم بطبيعة الحال مع استراتيجيات الدول الكبرى الساعية لفرض هيمنة شاملة على المنطقة، وبالتالي تُخلق الأزمات وتتصاعد حدة التوترات بينها وبين هذه الدول.
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 شباط الفائت، وذلك بالتوازي مع انسداد أفق الحل في مباحثات فيينا، نعتقد أنّ إيران ستكون أمام عدة احتمالات، يمكن إيجازها فيما يلي:
قد تستفيد الولايات المتحدة من حرب أوكرانيا بفرض شروط على روسيا للتخلي عن دعمها لإيران وعدم الوقوف ضد أي قرار أممي ضدها، وبالتالي تخسر إيران أكبر حليف كانت تعوّل عليه في مجلس الأمن، وتعقد الآمال في شراء أسلحة متطورة منه في المدى القريب.
ستكون إيران أكثر عزلة بعد تغيّر قواعد اللعبة، والضغط الأمريكي الأكبر اليوم على الدول الأوربية، بعد حاجة هذه الدول الملحة للحماية الأمريكية من الخطر الروسي؛ إذ لطالما كانت إيران تستقوي بموقف الأوربيين الذي كانوا يساندون إيران لوقت طويل، بسبب:
أ: موقفهم الضمني غير الراضي عن الهيمنة الأمريكية على القرار العالمي.
ب: استيائهم من العقوبات الأمريكية التي ألحقت الضرر بمصالح شركاتها في إيران.
ج: مخاوفهم من اندلاع حرب من شأنها أن تلحق الضرر بخطوط إمدادات الطاقة في الخليج العربي، وتغرق أراضيها باللاجئين.
سيتزايد الضغط على إيران في مباحثات فيينا، وستكون إيران أمام الرضوخ للأمر الواقع واللجوء إلى ما تسميه بـ “الليونة البطولية”، وهذا ما أشار إليه المرشد الإيراني علي خامنئي في إحدى خطبه الأخيرة، حول إمكانية التعامل مع “الأعداء”، وهذا يعني تقديم التنازل للولايات المتحدة والعودة إلى التزاماتها النووية دون تحقيق الشروط التي كانت تفرضها في المباحثات.
قد تستفيد إيران أيضاً من التوصل إلى اتفاق في فيينا وإحياء الاتفاق النووي ومنافسة روسيا بتصدير النفط إلى دول العالم بعد رفع العقوبات وانتقال هذه العقوبات إلى روسيا، وهذا بدوره قد يزيد من الهوة بين إيران وروسيا، وبالتالي تحقق الهدف الأمريكي في ضرب هذه العلاقة المتطلعة إلى التعزيز والتطور في إطار المحور الشرقي مع الصين، وقد تنعكس آثار هذا التصعيد بينهما في سوريا، من خلال السير ضد التخوفات الإيرانية في سوريا ومنها زيادة التنسيق مع إسرائيل لاستهداف القواعد الإيرانية، ودفع عجلة المفاوضات بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية نحو الأمام.
أما في حال إعلان فشل مباحثات فيينا وموت الاتفاق النووي مع إيران، وعدم تمكن الولايات المتحدة من إرضاخ روسيا لمطلبها فيما يتعلق بإيران، وبالتالي الاستمرار في حرب الاستنزاف ضد روسيا في أوكرانيا من خلال إطالة أمد الصراع، قد نكون أمام تعزيز في العلاقات الروسية-الإيرانية، وظهور صفقات بيع أسلحة روسية متطورة لإيران علناً، وبالتالي سيكون من المنطقي أن نتوقع تراجعاً في التنسيق الروسي-الإسرائيلي ضد إيران في سوريا، وبالتالي تزايد الصدام الإسرائيلي-الإيراني، الأمر الذي ربما يدفع إسرائيل لشن ضربات عسكرية ضد إيران، التي من الممكن أن تعلن الانسحاب من اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي، وبالتالي العمل للحصول على السلاح النووي دون أية قيود، ويرجّح أن يدفع ذلك الولايات المتحدة إلى هذا الصراع، وبالتالي تكون روسيا قد أعادت الكرة إلى الملعب الأمريكي، ونجحت في الإيقاع بين الولايات المتحدة وإيران، وإدخال أمريكا في حرب استنزاف غير تقليدية تدور في مساحة جغرافية واسعة شديدة الحساسية والأهمية بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، وهذه الحرب إن وقعت ستكون طويلة الأمد، وذات عواقب وخيمة على المنطقة بأسرها، وستدفع إيران ثمناً باهظاً فيها، قد تنتهي بتغيير نظام الجمهورية الإسلامية، ولن يكون تأثيرها قليلاً على الكثير من الدول ولا سيما دول المنطقة، وقد ينتج عن ذلك نشوء نظام عالمي جديد، قائم على أنقاض النظام السابق.