رغم أن القيادة الجديدة لحزب البعث العراقي لم تعترف، حتى الآن، بأن أخطاء الراحل صدام حسين هي التي أتاحت الفرصة النادرة لإيران لطي صفحات العداء بينها وبين الشيطان الأكبر، وهي التي أنجبت اللـُحمة الحميمية بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جورج بوش الأب، بيل كلنتون، جورج بوش الإبن، وبين المعارضة العراقية السابقة، رغم معرفتها المؤكدة بحقيقة تلك المعارضة التي تشكل الأحزابُ الإسلامية ذاتُ الولاء الكامل لنظام الخميني عمودَها الفقري وقيادتَها، بالمشاركة مع أحزاب الجبهة الكردستانية وحزب البعث العراقي التابع للمخابرات النظام السوري.
ومن العام 1991 تولت أمريكا تمويل تلك المعارضة ومليشياتها وإعلامها، وتنظيمها وتأهيلها لخلافة نظام صدام، رغم علمها بأن النظام الإيراني لم يُغير عقائده وأهدافه التي كانت أمريكا، دون غيرها، تعتبرها إرهابا وتهديدا لمصالحها ولأمن المنطقة والعالم.
فقد ويمكن القول إن تلك العلاقة ولدت وتعمقت في أيام غزو صدام حسين للكويت، من خلال الدور المزدوج الذي لعبه رئيس النظام، يومها، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، مُستغلا حاجة أمريكا إلى الدعم الإيراني لخططها العسكرية الموضوعة لتحرير الكويت، من جهة، وحاجة صدام حسين، من جهة أخرى، للمساندة الإيرانية في مواجهة أمريكا وحليفاتها العربيات.
فمن أخطاء صدام حسين القاتلة استدارتُه نحو طهران طالبا منها الصفح والغفران، وعارضا عليها التحالف، وتصفية جميع تبعات الحرب، ناسيا أو متجاهلا أن النظام في إيران، قائم وباقٍ على مبدأ تصدير الثورة إلى الخارج، ولا يتحقق له هذا الهدف البعيد إلاباحتلال العراق، والانطلاق منه إلى جواره من دول الإقليم، بعد ذلك.
أما رفسنجاني فقد لعب لعبة مزدوجة باتجاهين،
الاتجاه الأول، تمثل باستدراج صدام إلى كشف مخططاته ونواياه. فقد أوهمه بأن إيران تُصدّق توبته عن بغضه العقائدي والقومي والطائفي والشخصي لنظام الإمام الخميني، وتُقدر ندمه على حربه الطويلة المدمرة معها، وتُثمن اعترافه بأن دول الخليج العربية هي التي حرضته عليها ومولت حربه ضدها، ومع وعدٍ مؤكد بالدعم والمساندة.
وقد وثق صدام بالنظام الإيراني إلى درجة أنه أودع أهم طائراته العسكرية والمدنية أمانة لديه لحمايتها من قصف أمريكي محتمل، ثم أعاد الأرض التي كان قد احتلها بالحرب، وقام بسحب قواته التي كانت مرابطة على الحدود، وفتح أبواب العراق وشبابيكه للتجار الإيرانيين والزوار، ومنهم جواسيس النظام، بلا قيود ولا حدود، ثم ازدهرت تجارة شراءالنفط العراقي بأسعار زهيدة، وتهريبه إلى موانيء إيران، وتسويقه باعتباره نفطا إيرانيابالأسعار العالمية التي كانت سائدة يومها.
أما في الاتجاه الثاني فقد قام رفسنجاني بتسريب رسائل صدام الخمس لأمريكا ولحكومات دول الخليج العربية، وإبلاغ الإدارة الأمريكية بإيمان إيران القوي والثابت بضرورة إخراج الجيش العراقي من الكويت، وبالقوة، واستعدادها للمشاركة إذا طلب منها ذلك، تأييدا منها للشرعية الدولية، ورفضا لمبدأ احتلال دولة لأراضي دولة أخرى، في عملية غدر صاعقة بصدام ونظامه.
ومن يومها، وتأسيسا على ذلك، بدأت العلاقة الدافئة بين إيران وأمريكا تتوطد وتترعرع وتتوثق من خلال العمل المشترك في نسج كيان المعارضة العراقية، والتنسيق المثمر والمتصل فيما بينهما لإضعاف نظام صدام، ثم لإسقاطه بعد ذلك.
وقد بلغت ذروتها في عهد جورج بوش الإبن، وخصوصا في غزو للعراق، وإسقاط النظام، وتدمير حزب البعث، وإلغاء الجيش العراقي الذي حارب إيران ثماني سنوات، وتسليم السلطة لوكلاء النظام الإيراني العراقيين، والاعتماد الكلي على دعم المرجع السيستاني للحاكم المدني الأمريكي، بول بريمر، لجهوده في تشكيل مجلس الحكم، وكتابة الدستور، واجتثاث حزب البعث، والتعاون على استئصال المقاومة التي أطلق عليها الإيرانيون ووكلاؤهم صفة الإرهاب، حتى غدت الجيوش الأمريكية تعتمد بلا حدود علىإرشادات الأحزاب الدينية الحاكمة ومليشياتها، ووشاياتها ومعلوماتها عن فصائل المقاومة، وأماكن تواجدها، حتى امتلأت معسكرات الاعتقال الأمريكية بعشرات الآلاف من الرجال والنساء دون تهم محددة، ولا تحقيقات ولا محاكمات. وقد ثبت، بعد سنوات من اعتقالهم، أنهم كانوا أبرياء وضحايا وشايات مغرضة حاقدة من أحزاب السلطة.
إلى هنا والعلاقة بين الدولة المُصنَّفة ضمن دول محور الشر وبين الشيطان الأكبر ظلت تبدو سمنا إيرانيا خالصا وعسلا أمريكيا بامتياز.
إلا أن إيران التي لا تريد لإقامة أمريكا في العراق أن تطول، وتعمل على الانفراد بالهيمنة الكاملة على العراق، كانت، في الخفاء، تدبر عمليات تفجير المفخخات، وتجنيد الإرهابيين في سوريا وتسهيل مرورهم إلى العراق، لقتل الجنود الأمركيين والبريطانيين،وإلصاقها، جميعها، بالبعثيين والتكفيريين والإرهابيين الصداميين من أبناء المحافظات السنية بالتحديد.
إلا أن تلك الجرائم بدأت تتكشف للأجهزة الاستخبارات الأمنية والعسكرية الأمريكيةشيئا بعد شيء.
وقد بدأ الأمريكان بالتعرف على حقيقة الدور الإيراني المزدوج أثناء اعتقالهم قيس الخزعلي، قائد مليشيا عصائب أهل الحق، على خلفية الهجوم على مجلس محافظة كربلاء.
فقد اعترف بأن إيران هي التي خططت لهذا الهجوم الذي كان يهدف لخطف جنود أميركيين ومبادلتهم بمحتجزين لدى قوات التحالف، غير أن العملية انتهت بمقتل 5 جنود أميركيين، فقط.
ومن هنا بدأت إيران تظهر لأمريكا، على حقيقتها المخادعة المخربة، وصولا إلى تجاربها النووية السرية، وتصنيع وتطوير الصواريخ البالستية، وتأسيس وتمويل وتسليح وتدريب الفرق الإرهابية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إلا أن أوباما تجنب المواجهة، وفضلسياسة الترضية، وصولا إلى الاتفاق النووي الشهير.
أما الآن فأمريكا أوباما غير أمريكا دونالد ترمب الذي اعتبرت إيران فوزه بالرئاسة كارثةًعليها وعلى وكلائها في المنطقة.
ومن أول أيامه في البيت الأبيض أصدر ترمب توجيهاته لجميع أجهزة إدارته بالغوص عميقا في تفاصيل النشاطات الإيرانية، كاشفا عن قناعة نهائية بأن النظام الإيراني الحالي خطر حقيقي ليس على أمريكا وحسب، بل على حلفائها في المنطقة والعالم.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية ماضية بأقصى سرعتها، وبكل قدراتها، لمحاصرة النظام الحاكم في إيران، وإجباره على أحد أمرين، إما التخلي عن طبيعته العدوانية الإرهابية المدمرة، أو مواجهة الحصار، وصولا إلى السقوط.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيَثبُت ترمب على ذلك، أم يفاجيء العالم بقرار انقلابيٍ آخر أشبه بالقرار الذي أمر فيه بالانسحاب من سوريا؟ إن كل شيء محتمل.