18 ديسمبر، 2024 11:10 م

إن الذي يصعب علينا فهمه هو ما يجري بين أمريكا وإيران، من أربعين سنة. وأخرُها الإهانة التي وجهها المرشد الإيراني، علي خامنئي، لرئيس أكبر دولة في العالم، حين اشترط عليه، لبدء المفاوضات حول الملف النووي، أن يرفع جميع العقوبات، مقما، ثم يأخذ المرشد، بعد ذلك، وقتا إضافيا ليتأكد من أن الرفع دائم، وليس مؤقتا، ثم بعد كل ذلك (قد) يوافق على التفاوض.

وأعقبه الرئيس الإيراني، حسن روحاني، فأعلن أن بلاده “لن تلتزم بالاتفاق، قبل عودة أميركا إليه”. وقبل ذلك بقليل كان وزير المخابرات الإيراني قد هدد دول الغرب من أن إيران “قد تتجه إلى امتلاك سلاح نووي، إذا استمرت العقوبات الدولية”.

ثم نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤولين في المخابرات الإسرائيلية أنهم يعتقدون بأن إيران جمعت ما يكفي من اليورانيوم لصنع ما يقرب من ثلاث قنابل نووية.

كما أبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدول الأعضاء في تقرير سري، بأن إيران بدأت بإنتاج هذا المعدن الذي يستخدم في صناعة القنبلة النووية.

وعلى هذا، ومن الطبيعي جدا أن تُشعل هذه التحركات والنشاطات والتهديدات الإيرانية لأمريكا أسئلةً حائرة عديدة عن السر الكامن وراء هذه العقدة المستعصية.

هل فعلا تخاف أمريكا من المخبأ المجهول من أسلحة إيران، ومن مليشياتها المنتشرة في المنطقة ومن خلاياها النائمة المبثوثة حول العالم؟ أم إنها لا تخاف ولا تقيم وزنا لتهديدات الإيرانيين وتعتبرها زبدا يذهب جفاءً ولا قيمة له ولكنها، لغرض في دواخل صناع القرار فيها، تستثمر الحالة الإيرانية لخمة أهداف بعيدة موقوتة ومؤجلة إلى حين؟

فالمعلوم أن أمريكا، سواء كانت جمهوريةً كانت أو ديمقراطية، لا تطيق الإهانة، ولا تقبل التحدي، ولا تصبر على تهديد.

ثم إنها تعلم بأن إيران لا تعاركها بذراعيها وعضلاتها وحدها، بل بأذرع الصين وروسيا وكوريا الشمالية، في حرب بالوكالة هدفها كسر هيبتها والاستحواذ على ممتلكاتها ومناطق نفوذها في المنطقة.  

وتتذكرون، دون شك، أنّ الإدارة الجمهورية، أيام رئيس جورج بوش الأب، لم تحتمل تهديد صدام حسين بحرق نصف إسرائيل في نيسان /أبريل 1990، فقررت الانتقام منه وخططت لقتله.

ثم جاءت الإدارة الديمقراطية، في أيام رئيسها بيل كلنتون 1993، فوضعت الخطط والبرامج لمحاصرة صدام حسين، تمهيدا للخلاص منه ومن نظامه.

ثم عادت الإدارة الجمهورية على أيام رئيسها جورج بوش الابن 2001 فجيشت جيوشها الجرارة، وفي شهر نيسان أيضا، 2003، غزت العراق، وألقت القبض على رئيسه، واعتقلت جميع وزرائه ومدرائه وسفرائه وقادة جيوشه، ثم شنقته، وسلمت الدولة العراقية لعدوّتها اللدودة، إيران، دون قتال، لتعيدها إلى أحوالها في أيام عصر الانحطاط.

وإذا كانت الملايين من الضحايا الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين والفلسطينيين وعرب الخليج العربي، لأسباب عديدة، عاجزة عن ردع خليفة المسلمين، وكيلِ الله، روحِ الله، آيةِ الله، الإمام الخميني، ووريثه المرشد الأعلى الإمام الوليُّ الفقيه، علي خامنئي، فليس مفهوما سكوت أمريكا (الجبارة) (القهارة) على ما فعلاه بمواطنيها وسفاراتها وقواعدها العسكرية، ثم مات الأول على فراشه ميتة الأبطال الظافرين، وظل الثاني مطلق السراح، واقفا بشموخ، يهدد ويتوعد، ويضع شروطه التعجيزية المهينة على سيدة القوة والجبروت التي تتحكم، سرا أو علانية، بثلاثة أرباع الدنيا، بقوة سلاحها ودولاراتها ومخابراتها.  

فعلى امتداد اثنين وأربعين عاما ونظام المعممين الإيرانيين يغزو دولا وشعوبا تضعها أمريكا في خانة حلفائها، ويهدد حليفتها العزيزة إسرائيل، بالمحو من الوجود، وأمريكا ترى وتسمع وتقرأ ثم ترمي وراء ظهرها، وكأن شيئا لم يكن ولن يكون.

فسوريا، مثلا، منذ أن دخلها الإسلام الخميني، أصبحت مشكلة الأمريكيين بامتياز، بعد أن تحولت إلى مستعمرة روسية إيرانية يصول ويجول فيها الحرس الثوري وحسن نصر الله، ورفاقُهما المجاهدون العراقيون، وهم يتفرجون.

والعراق الذي ولد على أيدي جيوش أمريكا وبأموالها ودماء جنودها وضباطها، هو الآخر، تحول، بجهود الحرس الثوري وذيوله وذيول ذيوله السنة والكرد، إلى أكثر بلدٍ في العالم تتلقى فيه أمريكا الصفعات والإهانات بالمتفجرات والصواريخ، دون توقف.

وفي لبنان، هو الآخر، شهدت أمريكا أفضع فواجعها بمفخخات الإيرانيين أو جواسيس الإيرانيين، وهي تعرف الفاعل، ولا تفعل أكثر من الرحيل.

وحتى الدولة الإيرانية، ذاتها، قبل غيرها. ألم تكن، قبل قدوم الخميني، مزرعةً أمريكية وارفة الظلال، دانية القطاف، تغرف منها شركاتُ أمريكا ومخابراتها ما خفَّ حملُه وغلا ثمنُه، وتدير فيها، بحرية كاملة، أحوالها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وأمور الصناعة والزراعة والتجارة، وحتى الثقافة والعلوم والفنون؟.

فهل هناك، بعد هذا كله، ذلٌ أفدح من هذا الذل يُلحقه المعممون الإيرانيون بعظمة أمريكا وجبروتها، في المنطقة والعالم؟.

والسؤال المهم هنا هو، ربما تكون أمريكا اليوم قد غيرت مزاجها، وأصبحت لا تحب الغزو والاحتلال، ولا تريد أن تفعل بإيران الخميني ما فعلته بعراق صدام حسين حين غزا الكويت، ولا ما فعلته به في 2003، ولكن أليس في إمكانها، وهي القادرة القاهرة الماهرة، أن تلجأ إلى حروب العصر الحديث، بالوكالة، كما فعل الخميني، وكما يفعل خامنئي، فتقاتل إيران في داخلها، وليس في سوريا والعراق ولبنان، بالتظاهرات والانتفاضات والاعتصامات، وبالمليشيات المقاتلة الأحوازيةً والكرديةً والبلوشية والأرمنية والشركسية التي تمولها، سرا وعلانية، وتزودها بالمال والسلاح والذخيرة والصواريخ والمُسيَّرات والمفخخات، على طريقة (وداوِني بالتي كانت هي الداءُ)؟، خصوصا وأنها تعلم، وإيران نفسها تعلم، بأن التربة الإيرانية، بعد سنين الفقر والقمع والفشل وفساد المعممين، قد اكتمل نضجها، وأصبحت في انتظار الشرارة التي تشعل حقولها، كلها، في سبعة أيام؟.