18 ديسمبر، 2024 10:12 م

إيران الأمس، وإيران اليوم، وإيران الغد

إيران الأمس، وإيران اليوم، وإيران الغد

يقول التاريخ المشترك بين العراقيين والإيرانيين إن كل ما سال من دماء، وما احترق من بلاد، ومن هُجر من بشر، عبر العصور، من أجل ترويض العراقيين وامتلاكهم بالقوة ضاع هباءً، وسيضيع هباءً إلى أبد الآبدين .

ولنبدأ من أول الحكاية. إن كل ما دار من خلاف حول خلافة أبي بكر ثم عمر وعثمان وعلي من بعده، سواءٌ كان بقناعاتٍ واجتهادات دينية، أو بطموحات سلطوية سياسية دنيوية كان خلافا عربيا داخليا لم يمنع الإمام علي من تزويج ابنته للخليفة عمر، كما لم يمنع الخليفة عمر من اعتماد الإمام علي مستشاره الأقرب إليه من أي مستشار آخر، وكانت كلمته لدى الخليفة واحدة لم تصبح كلمتين.

وتأسيسا على ذلك، تصبح حماسة القوميين الفرس في مقاتلة أحد الفريقين العربيين اللذين اختلفا، قبل ألف وأربعمئة سنة، على الرياسة، وطلب الثأر من أحفاد أحفاد أحفادهم أمرٌ لا يمكن تفسيره إلا بأنه طمع دنيوي خالص، وحلم استعماري محض لم يتحقق أمس، ولن يتحقق اليوم، ولن يتحقق حتى بعد ألف وأربعمئة سنة أخرى، وأكثر.

فالإمام علي والإمام الحسين والأئمة الآخرون الذين يطلب الفارسيون الثأر لهم من (أشقائهم) العرب الآخرين أعزُ على العرب من غيرهم، وأثمنُ وأحبُ وأكثرُ قداسة لدى المتدينين منهم.

ثم إن العرب المسلمين المتقدمين، بعد كل ما مرّ من اختلاف واقتتال داخلي بينهم، تمكنوا من طيّ خلافات أسلافهم تلك، وتجاوزها، وصاروا يترحمون على من أصاب منهم، ويطلبون المغفرة لمن أخطأ.

وها هم اليوم لا يفرقون في محبتهم بين صحابي وصحابي، ولا بين أحدٍ من آل البيت وآخر. يُمجدون الإمام علي وولديه وأحفاده، ويقدرون ويحبون أبا بكر وعمراً وعثمان.

ولكن إصرار الإيرانيين الفرس، وحدهم، على النفخ في نيران الخلافات المطوية من قرون، ومحاولة إحياء عظامها وهي رميم مضيعة لوقتهم ووقتنا، وإهدار لدماء أبنائهم ودماء أبنائنا، وجهود خائبة لم تستطع إجبار مياه دجلة والفرات على أن تغير مسارها فتّتجه شرقا وليس جنوبا، ولن تستيطع.

ولقد بقي ثابتا في التاريخ أن الفرس أدمنوا شنَّ حروبهم على جيرانهم، وعلى العراقيين بشكل خاص، قبل الإسلام وقبل ولادة الإمام علي وولده الحسين، بعشرات بل مئات السنين.

ثم جاء الفتح الإسلامي لبلاد فارس وأدخل أهلها في الدين الجديد، ولو بقوة السيف، ليضيف جديدا إلى المتراكم من الأحقاد المتجذرة في الشخصية الفارسية الاعتيادية، حتى فيمن دخل منهم الدين الجديد.

ومازال فرسٌ كثيرون يعتقدون بأن ما فعله الفاتحون العرب الأوائل بدولتهم الفارسية لم يكن كان عملا بأوامر الله ورسوله وآله لإخراجهم من الظلمات إلى النور، بل هو ردٌ عربي  عنصري على حروبهم القومية القديمة في الأزمنة المتعاقبة.

ولو دخلنا في تاريخ الحركات السرية التي ظهرت في الأيام الأولى للإسلام، وما زالت تظهر إلى يومنا هذا، لوجدنا أن أكبر تلك الحركات، وأقواها، وأكثرها قتلا وحرقا وشنقا، كانت تولد في إيران، ثم تترعرع وتقوى وتنتشر منها في بلاد المسلمين، وكانت، كلها، ترتدي، غالبا، ثياب التقوى والحمية والغيرة على الدين، وتُنادي بالثورة على الخلفاء وعُمالهم، مستظلة بحب آل البيت الهاشمي، طلبا لـ (حقوقهم) التي انتزعت منهم عنوةً، كما يزعمون.

ألم يحاول الفرس، بكل ما توفر لهم من أسلحة ومزاعم، تقويضَ الدولة الإسلامية في أيام خليفتها الأول ثم الثاني والثالث، والدولة الأموية، من أول أيامها، والعباسية، وفشلوا، وما زالوا يحلمون بيوم السيادة على العرب، ولا يتوقفون؟.

ومعروفةٌ، ولا حاجة إلى تكرارها، حكايةُ أبي مسلم الخراساني الذي كان القائد الأول والمرشد الأعلى للجيوش العباسية السرية والعلنية التي أسقطت الدولة الأموية. فقد بسط سلطانه على الدولة الجديدة، وأوشك أن يجعلها فارسية، لولا فراسة أبي جعفر المنصور الذي فتك به وبأعوانهِ وبَعثَر سلطانه، قبل فوات الأوان.

ثم عادوا في زمن هارون الرشيد تحت أجنحة يحيى البرمكي وولديه الفضل وجعفر الذين أوشكوا أن يجعلوا الدولة العباسية فارسية خالصة لولا فطنة هارون الرشيد.

إلى هنا والأمر لا يحتاج إلى مزيد من الشرح والتوضيح. فجاهلٌ أو مزورٌ من لا يعتبر الذي يفعله الإيرانيون الفرس اليوم في العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان حروبا قومية عنصرية تنتمي إلى قرون عديدة من السنين. وكما فشلوا بالأمس سيفشلون اليوم، وسيفشلون غدا، دون جدال.

فلم يسقط العراق وما حوله من دول عربية تحت أقدام الغزاة، لا القدامى ولا الجدد، ولم يُلحق أيٌ منها بإيران، كما حدث لعربستان والأهواز.

وينسى ورثة الخميني وأتباع خليفته خامنئي أن الزمن لم يعد يسمح بولادة امبراطورية فارسية جديدة في المنطقة، لأسباب عديدة منها، بل في مقدمتها الرفض العفوي المتأصل في الأوساط الشعبية في المنطقة، بما فيها إيران ذاتها، لهيمنة الفكر السلفي الديني، وتطلع شعوب المنطقة كلها إلى اللحاق بركب البشرية المتقدمة التي تنعم بخيرات الحداثة والعلمانية والديمقراطية وسلطة العقل والقانون.

وهناك حقيقة ثابتة تقول إن الأغلبية الساحقة من الشيعة العرب في العراق والخليج ولبنان أصبحت أكثرَ فهما للدوافع الحقيقية لإيران التي تحاول استدراجهم ا لمعاداة أهلهم، وتخريب بلادهم، خدمة لأوهام قومية توسعية لا تتحقق. إنهم يحرثون الماء، ويقاتلون الهواء.