بعد أسابيع من أنطلاق الأنتفاضات الشعبية في البلدان العربية في شهر كانون الثاني يناير 2010 إبتداء من تونس وبعدها مصر جاء الأعلام الغربي بتسمية Arab Spring وقد تم ترجمة هذا المصطلح في الأعلام العربي الى “الربيع العربي” بإعتبار أن الأنتفاصات العربية إنتشرت وتوسعت في فصل الربيع من تلك السنة، وان الحياة الربيعية قادمة الى العرب. نعم الربيع هو بداية الحياة والأخضرار وتفتح الأزهار وظهور الثمار بعد أفول الشتاء. الا أنه وبعد أسابيع من ظهور تسمية الربيع العربي إنبرى بعض الساسة العراقيون الجدد بنظرية تقول إن الربيع العربي قد بدأ أولاً من العراق في ربيع عام 1991 بعد حرب الخليج الثانية وجنينا المحصول في عام 2003 – ما أطوله من زمن وما أفسده من محصول. كما قال بعض الساسة المتفيقهين ان العراق لم يحرره الأميركان بل هم الذين حرروه، طيب فلماذا قدمتم للأميركان سيف ذو الفقار هدية وأعترافاً لهم بالجميل وصنعتموه من مال الشعب وليس من جيوبكم. على كل حال، فهل فعلاً رأى الشعب العراقي الربيع بعد سقوط النظام؟ الأحصائيات الحكومية والعالمية تقول ان ربع الشعب العراقي أصبح تحت خط الفقر بعد الأحتلال (طبعاً لا نعرف كم من الشعب على خط الفقر؟) وثلث الشعب أمييون، والأرامل واليتامى بالملايين، والمعوقين بمئات الألوف، والقتل والأغتيال على قدم وساق لكل من يعمل بشرف أو يقول كلمة حق، وتهمة الأرهاب جاهزة لمن يراد تصفيته، والفساد المالي والأداري وسرقات المسؤولين فاحت رائحتها العفنة (طبعاً لا يخلوا البلد من الناس الشرفاء ولكنهم مهمشون ومهشمون) والناس في بيوتهم غير آمنين من السراق والحرامية والخاوَجية، والأختطافات في وضح النهار والسجون مليئة بالأبرياء والتعذيب والأعدامات أصبحت سمة النظام الحالي بل زادت أضعافا عن السابق، والعوائل تعيش في بيوت من الصفيح في كل مكان والشحاذين في كل زاوية وشارع، والكهرباء معطلة ونهري دجلة والفرات في طريقهما للجفاف والروافد قد سدها عنا جيراننا المسلمون فأختفى الزرع وجف الضرع وبدأنا نستورد حتى الفجل من الجيران، وعم التلوث، والأمراض الخبيثة تفتك بالبشر وأصبحت المدن والأسواق مزابلا، ورجال الدين يبثون الأفكار الخبيثة التي أكل الدهر عليها ويبتزون الناس في أموالهم، والحكومة تتعامل مع الشعب بالقرابة للحاكم وبالحزبية والعشائرية والولاءات وبالطائفية والعنصرية بدلاً من المواطنة والكفاءة وهجرت الناس في الداخل والخارج. فأي ربيع هذا الذي تدعون يا ساسة العراق الجديد ، ربما هو ربيع لكم ولكن الشعب لم ير الربيع، فقد سكنتم بمساكن الذين قبلكم ولم تتعضوا، وأحطتم أنفسكم بالجيش والعسس والعلاسة وكأنكم مخلدون. لقد أعطيتم لأنفسكم ما ليس لكم من أموال الشعب من رواتب ضخمة وفلل ومصفحات وسفر وحسابات مصرفية فلكية في الخارج وتركتم للشعب الفتات الذي لا يغني من جوع، وأصبحتم مترفين بعد أن كنتم فقراء، وتطول القائمة فأعمالكم الفاسدة لا تحصى أيها الساسة، والله فوق كل جبار وهو يمهل ولا يهمل، وتذكروا أنكم لا تأخذوا من هذه الدنيا سوى قطعة قماش، وسيكتب التاريخ أعمالكم المشينة. شعبنا يحتاج الى ربيع جديد للحصول على حقوقه وعلى لقمة العيش وعلى حريته من أحزاب الدولار ومن سيطرة الجيران ، لقد طفح الكيل فمتى تعقلون. وهل سنرى ” إيراك سبرك ” Iraq spring آخر؟ ولكن ماذا نعني بالـ “سبرنك”؟
لقد جثم حكام الجمهوريات العربية على صدور الناس لسنوات طويلة حتى ما أن تـُذكر تلك البلدان يذكر الحاكم رديفاً لها. وبعد أن كان أولئك الحكام يعيبون الأنظمة الملكية الوراثية وإذا بهم يصبحون جمهوريات وراثية وبدؤا بالتمهيد لتسليم الحكم الى إبنائهم وكأن الشعوب عجزت عن إيجاد حاكم آخر، بل غيروا دساتير البلد لتتلائم مع الأولاد الورثة. طبعاً الجمهوريات الوراثية ليست موضة عربية فقط بل هناك جمهورية كوريا الشمالية وكوبا اللتان إتبعتا نفس الأسلوب. لقد نجحت بعض الأنتفاضات العربية في إزاحة الحكام المخضرمين وذلك بدماء الشعب وبعضها لا يزال يناضل من أجل الخلاص. وكما قلنا في بداية المقال فقد سمى الأعلام الغربي الثورات الشعبية العربية بـ “آراب سبرنك” ، فهل ترجمة المصطلح الأنكليزي الى اللغة العربية كان موفقاً وهل كان الأعلام الغربي فعلاً يقصد من وراء هذه التسمية “فصل الربيع”. المعروف أن كلمة Spring في اللغة الأنكليزية لها عدة معاني ومنها “فصل الربيع” “والينبوع” و”النابض أو الزمبرك” وكذلك أستعملت للدلالة على سرعة التحرك الى آخره. ولا ندري لماذا تبنّى الأعلام العربي ترجمة مصطلح آراب سبرنك الى مصطلح الربيع العربي حصراً وتركوا المعاني الأخرى. في الحقيقة ما جرى ويجري في البلدان العربية هو ليس فصلا ربيعياً لأن الربيع يتميز بالخضرة وتفتح الأزهار وتعم فيه السعادة والأبتهاج وانشراح النفس. فهل ما حصل في العراق ومصر وليبيا واليمن كان فصلاً ربيعياً أم غير ذلك؟ بل نعتقد أن المعنى الأقرب لهذا المصطلح هو النابض العربي. كيف؟
لسنوات طويلة كانت شعوب المنطقة وبالأخص الشعب العربي كالنابض الحلزوني ضَغَطه الحكام لسنوات حتى وصل الى حد لا يمكن ضغطه وهنا إنفلت النابض من يد الحاكم وطار في الهواء. هل يتذكر أحدنا يوماً كيف ضغط على نابض وانفلت من يده؟ أكيد .. فإن الجهة التي ينفلت اليها النابض من اليد لا يمكن حزرها وتخمينها ففي بعض الأحيان يضيع النابض في زوايا مظلمة وقد نبحث عنه طويلاً ولا نجده الا بالصدفة. هذا ما حدث للبلدان العربية التي تخلصت من يد الحاكم الظالم فهي كالنابض قد قفزت الى المجهول وطارت في الهواء واستقرت في مكان غير مناسب. وبعد أن كان المنتفضون يتمنون أن تستقر بهم الدنيا على فراش وفير وتمتلىء حياتهم بالسعادة والحرية وإذا بالنابض يستقر بيد غيرهم الذي بدأ يذيقهم من نفس طعم وقوة الضاغط الأول. لقد بدأت الجموع تفكر بأنفلات جديد وقفزة جديدة عسى أن يحالفهم الحظ هذه المرة. طبعاَ الخطأ ليس فقط بالحكام بل بعض اللوم يقع على الشعوب. الشعوب العربية ومنها الشعب العراقي هي التي ربت الدكتاتورية بالتصفيق للحاكم الظالم والمديح والرقص بحضرته، فقبض الحاكم على الشعب بيد من حديد وبدأ يضغط ويضطهد. وقد عادت طبقة المصفقين والمداحين والأنتهازيين مرة أخرى الى الساحة. إن غياب قيادة جيدة ونزيهة وحكيمة ومجربة للأنتفاضات العربية بصورة عامة والعراقية بصورة خاصة أدت الى مجيء الأحزاب لأجل الأنتقام وليس البناء وما يهمهم الا ملىء جيوبهم ولا يهمهم الشعب. وعندما سئل بعض المنتفضين في البلدان العربية من هو قائدكم إستشاطوا غضباً وقالوا ليس لدينا قائد فالشعب هو القائد. في العراق أستغلت بعض الجهات التي عادت الى العراق، والكثير منهم كانوا في بلدان اللجوء، إستغلت غياب القيادة المناسبة والصحيحة والنزيهة للأنتفاضة، وما أن أزيح الحاكم السابق حتى قفز المتربصون والأنتهازيون الى كرسي الحكم، وهكذا خرج المنتفضون من المولد بدون حمص. فيا أيها الحكام الجدد أرجعوا الى رشدكم وأنصفوا شعبكم والا فأنتم بانتظار السبرنك العراقي الجديد ولكن هذه المرة ستكون قفزة السبرنك قوية وعلى وجوهكم وفي عيونكم، ويا شعب لا تنسى أخطاء الأنتفاضات الماضية، ويمكرون ويمكر الله.