يطل علينا في العراق بين الحين والحين عبر وسائل الإعلام خلال حوارات أو مؤتمرات أو اجتماعات برلمانية من يتحدث من موقع المسؤولية عن ارتكاب هذا المسؤول أو ذاك جريمة أو أكثر على درجة كبيرة من الجسامة والخطورة، فثمة من يتهم أحدهم بالرشوة أو الإختلاس، وثمة من يتهم آخر بتهريب مئات الملايين إلى خارج البلد أو الإستيلاء على ممتلكات عامة باستغلال الوظيفة، بل حتى انطوت التصريحات أحياناً على الإتهام بالخيانة والتفريط بأرض البلد.
هنا، أمام الإتهام بهذه الجرائم الخطيرة، من حق المواطن، أي مواطن، أن يسأل : من ذا الذي يقع على عاتقه واجب تحريك الإجراءات القانونية بحق هؤلاء ؟.
أمام هذا التساؤل سمعنا من يقول إن ما يعرض في وسائل الإعلام لا يصلح أن يكون أساساً لتحريك الدعوى الجزائية أو دليلاً للإدانة، لكننا نرد على هذا القول بأنه غير دقيق ولا يلغي دور من يجيز له القانون تحريك الدعوى، ولا يعفي من يوجب عليه القانون تحريكها بحكم مسؤوليته.
لقد أجازت المادة الأولى من قانون أصول المحاكمات الجزائية لكل شخص علم بوقوع جريمة أن يخبر قاضي التحقيق أو المحقق أو أي مسؤول في مركز الشرطة أو أعضاء الضبط القضائي، ولم يستثن من ذلك إلا جرائم قليلة يقتصر الحق في تحريكها على المجني عليه، وهي جرائم ذات طبيعة شخصية كالقذف والسب وإفشاء الأسرار الخاصة.
ولظروف واقعية معروفة لا يجد المرء لوماً يوجهه إلى المواطن العادي حين يحجم عن الإخبار عن الجرائم.
من جهة أخرى أوجبت المادة (٤٨) من ذات القانون على كل مكلف بخدمة عامة ( كالموظف وعضو مجلس النواب والعسكري وعضو مجلس المحافظة أو المجلس البلدي مثلاً ) علم أثناء تأدية عمله أو بسبب تأديته بوقوع جريمة أو اشتبه في وقوع جريمة تتعلق بالحق العام أن يخبر قاضي التحقيق أو المحقق أو الإدعاء العام أو أحد مراكز الشرطة.
وهنا أيضاً – رغم صيغة الوجوب – لن نتوقف عند هذه الحالة من حالات تحريك الشكوى لأن جوهر كلامنا يتوجه إلى جهاز قضائي أوكل إليه القانون هذه المهمة.. إنه الإدعاء العام.
لقد منحت المادة (٣٣) من قانون أصول المحاكمات الجزائية للإدعاء العام الحق في طلب إقامة الدعوى بالحق العام وتعقيبها والإشراف على أعمال المحققين وأعضاء الضبط القضائي، ثم جاء قانون الإدعاء العام ذو الرقم (١٥٩) لسنة ١٩٧٩ ( الملغى) ليمنح أعضاء الإدعاء العام ما يكفي من السلطة في هذا المجال، وجاء بعده قانون الإدعاء العام الحالي ذو الرقم (٤٩) لسنة ٢٠١٧ الذي جعل من أهدافه حماية نظام الدولة وأمنها والحرص على المصالح العليا للشعب والحفاظ على أموال الدولة والقطاع العام ( المادة الثانية منه )، ونصت المادة (٥) منه في بندها الأول على أن يتولى الإدعاء العام ” إقامة الدعوى بالحق العام وقضايا الفساد المالي والإداري ومتابعتها “، وهو ما ينسجم مع كون الإدعاء العام ممثلاً للمجتمع ومصالحه العليا.
ما دام الأمر هكذا فإن التساؤل يظل كبيراً عن سبب عدم تحرك الإدعاء العام لوضع من يوجه إليه اتهام بارتكاب هذه الجرائم الخطيرة أمام المسؤولية القانونية. وفِي هذا الصدد لا بد من التشديد على أمرين :
الأول : أن القانون لم يحدد وسيلة معينة يعلم عضو الإدعاء العام بواسطتها بوقوع الجريمة أو يشتبه بوقوعها.
الثاني : أن القول بأن ما يطرح في الإعلام لا يصلح دليلاً للإدانة لا يصمد أمام منطق القانون، إذ لو سلمنا باحتمال اصطناع القول أو الصورة فإن هذا الإحتمال يكون موضع دفاع ومناقشة وتحقيق قضائي تدعمه خبرة الخبراء الفنيين ولا يكتفى به وإنما يجري استجواب من صدر عنه الكلام ومن وُجِّه إليه الإتهام، ومن ثم يكون في وسع القضاء التحقق من كون الكلام صادراً عن من نُسب إليه ومن صحة ما صدر من قول للوصول إلى الحقيقة والنطق بالحكم العادل.
إن دوراً كبيراً ينتظر الزملاء أعضاء الإدعاء العام في موضوع بالغ الأهمية يتعلق بالمصلحة العامة والمال العام وشرف المسؤولية.
وممارسة هذا الدور ستعمّق ثقة المواطن بالقضاء وبالرقيب الأمين على الشرعية (الإدعاء العام). وستؤدي – وهذا هو الأهم – إلى ضرب الفساد ووضع الفاسدين تحت طائلة القانون واحترام المسؤولية وواجب التحلّي بالنزاهة والإخلاص.