23 ديسمبر، 2024 10:57 ص

إنهيار الفن المعماري للأضرحة الدينية في مدينة كربلاء

إنهيار الفن المعماري للأضرحة الدينية في مدينة كربلاء

(حينما يتولى الجاهلُ زِمام الأمور تحت غطاء الدين الخادع وشعاراته البرّاقة الزائفة فلاتستغرب سوء تصرفه وبشاعة سلوكة وعدم الصواب في قراراته وفداحة الخطأ فيها والفشل الذريع والانحراف في أعماله … والأهم من ذلك كُله أنْ لاتستكثر عليه جميع ذلك مادُمتَ قد جعلتَ منه قِدّيساً وإرتضيته بمحضِ إرادتك إماماً لك وزعيماً وراعياً ومُعلماً وقائداً ومُنقذاً !)
إنّ إنهيار الفن المعماري للأضرحة الدينية والتخبط في التخطيط الحَضَري لمدينة كربلاء وإختفاء المعالم التأريخية فيها وخنق الفضاءات وقتل الرؤية وتلاشي المشاهد البصرية لمنارات كربلاء الخالدة الممتدة في أعماق الزمن عبر مراحله المتعددة علاوة على تشويه القناعات الفكرية لحركة الامام الحسين والهذيان العقائدي المُضطرب المُصاحِب لها ومسخ التوجه والنموذج الثوري لها بسبب بلادة وتخبط ورعونة وهيمنة رجال الدين وأراجيفهم والتذبذب في سيرتهم لأنهم لايريدون الانفتاح على الحياة إنما هدفهم هو البقاء على هامشٍ ضيقٍ منها والذي أعطى صورة مُغايرة للحقيقة في جميع المجالات والنواحي الانسانية لهذا فأنهم لم يستعينوا بالخبراء والمستشارين والفنانين وذوي الكفاءات من المُؤهلين المُخلصين إنما تقاربوا وتحالفوا مع الانتهازيين من المهندسين الذين لاتهمّهم غير مصالحهم الضيقة.
لقد أماط هؤلاء اللثام عن حقدهم وكشفوا النقاب عن كراهيتهم وأوغلوا في شرورهم فهم لم يكتفوا بمقتل الحسين في غابر الأزمنة إنما لاحقوه بعد مماته لينتزعوا حقيقة ثورته ويستأصلوا شُعاع رسالته ويسلبوا عنفوان روحه ويُوقعوا بعدالة قضيته واستمروا في عدوانيتهم ليخنقوا مدينته ويتجاوزوا على مُحرمات ضريحه بأبنية كئيبة صمّاء.
حينما نشاهد (تاج محل) في مدينة أگرا في الهند بهندسته المتناظرة ورخامه الأبيض ونقوشه الجميلة وكتاباته الرائعة ومآذنه العالية وهو يتوسط حدائق كالجنائن الغنّاء وما فيها من ممرات ساحرة وبحيرات جميلة وشجيرات باسقة ترفرف عليها أجنحة الطيور وهو يحتضن في قلبه ثرى رفات (ممتاز محل) زوجة الملك (شاه جهان) الامبراطور المنغولي تخليداً لذكراها مما جعل السوّاح يقصدونها من جميع أرجاء العالم والذي تزيد أعدادهم عن المليوني سائح سنوياً حسب توثيق منظمة اليونسكو.
وحينما نطل من جهات أربعة على ضريح (الامام الرضا) في مدينة خراسان في ايران بشوارعها الفسيحة وهو يتراءى للناظر بجمال منائرهِ وشموخ قُببهِ ولآليء أنوارهِ ومسارات أنفاقهِ التي تخترق الأرض من تحته فتمتص زحام المركبات وضجيج أصواتها.
حينما نشاهد الآثار التأريخية التي تهتم بها الشعوب والدول ونقارنها مع الاهمال الكبير الذي يعمُّ المعالم الحضارية والمراقد الدينية وما تنوءُ به من تراكم للأوساخ وتكديس للنفايات وماتعج به من صخب وضوضاء حينئذ نعرف الفارق الكبير بين مايحصل في العراق وما هو حاصل في باقي البلدان.
إنّ جميع الشعوب لها رموزاً في شخصياتها وهي مُخلصة في تعظيمها وتبجيلها وإحترامها لهم بالشكل اللائق والمحافظة على الامتداد التأريخي لتلك الرموز وهي تصنع لهم صروحاً بطرازات فنية وريازات معمارية تجتذب الانظار وتخطف القلوب والابصار.
وتجعل أرضية تلك الصروح من المرمر الخالص تتموج على جوانبه بريق الاضوية وتنعكس عليها شعاعات القمر وبيلسان الشمس يتخلله رذاذ الماء المتساقط من النافورات الراقصة ومن غيث السماء وتحفّهُ الورود وتلتفُّ حول أسواره الحدائق بغصونها وأزهارها وطيورها وتغاريد عصافيرها ورقصات سناجبها وترنيمة صباحاتها المشرقة ومعزوفاتها التي تنساب على الصدور إقحوانا وبلسماً وترفرف عليها فراشات السعادة فترتادها الأعداد الغفيرة من الناس من أنحاء العالم بملابسها المزركشة الملونة وزينتها المُعطرة وبهجتها المعهودة.
أما نحن فخلاف ذلك … فإن جميع الوقائع قد أثبتت أننا لانريد تحضّراً ولانظاماً ولاهدوءاً ولانظافة ولاذوقاً ولاأملاً … إنما نريد أن يكون عُظماؤنا مقرونة شخصياتهم بالمقابر والموت والتنكيل والبكاء والندم والآهات والتوشّح بالحزن والسواد والظلام وأن تحيط بأروقة مزاراتهم الفوضى وتعلوها القاذورات.
نريد أن نخطو اليهم بزحاماتٍ وعويلٍ … يلفحُ وجوهنا الغبار وتعترض خطوات أرجلنا القِمامة من كل مكان ونندبهم بكلمات يائسة ونشيجٍ وهذيان.
فهل يأتي اليوم الذي نُقرر فيه أن نخرج من عالمٍ ضيق الى عالم أرحب … نخرج فيه من عالم الموت الى عوالم الحياة والتجدد.
علينا أن نعرف أن رمزية الحسين … لايسعها قبر ولايضمّها محيط ولاتستذكرها عواطف ساذجة ولامواكب صاخبة تموج في ضوضاء وغوغاء ولاتُحييها شعارات ولايقتصر عليها دينٌ معين.
ويبقى الحسينُ … رمزاً شامخاً يتجلى ضمن صفوف الرموز (التي سبقته والتي ستلحقه) من حَمَلة الرسالات والمباديء على طول أزمان الخليقة وعمرها السحيق لأنّ الحسين … هو موقفٌ يسعه الضمير الحي وتتفاعل مع قضيته المباديء السامية بإطارها الانساني.