23 ديسمبر، 2024 3:49 ص

إنهم يقتلون الجمال أليس كذالك؟

إنهم يقتلون الجمال أليس كذالك؟

صرح ثقافي يسبح في نعيم الحب والشفافية والجمال على مر العصور.كل من يدخلهُ سواء كان مدرسا أم طالبا ليس لديه أي طموح سوى ألأرتقاء بالفن العراقي الى مقام رفيع في زمن لم يعد فيه أهمية للجمال أو الصدق في المعاملات الروحية..عصر طغت عليه روح المادة وألأنتقام في كافة المجالات.ماأهمية الشفافية والجمال في زمن التصحر الروحي – إن صح التعبير- زمن لم يعد فيه سوى صوت اللهاث وراء المادة وألأغتراف من ينابيع الحرام أينما وجد. شباب في عمر الزهور يدخلون الصرح الثقافي كل يوم تحدوهم رغبة جامحه لتحقيق هدف روحي داخلي.. فهذا يطمح أن يكون ممثلا عالميا وهذا يريد أن يكون مخرجا على مستوى المخرجين العظام على مر ألأزمنة والعصور…و ذالك ألأخر همه الوحيد أن يكون نحاتا لامعا كي يملأ العاصمه بتماثيله التي تحاكي الوجدان وتناجي النفس البشرية في مختلف أشكالها.خلية تشبه خلايا النحل في فصل الربيع.. الكل يعمل والكل يتسابق مع الزمن الصعب للوصول الى أحلامه.
    ودقت ساعة الدرس ودخل الطلاب اليافعين قاعات الدرس وألأمل الشفاف يداعب أفئدتهم كما يحدث كل يوم.وقبل أن يحدثهم ألأستاذ عن الفن المعاصر.. وعن كلكامش وعشتار.. أسودت الدنيا وعصف التراب في قاعات الدرس ألأنيقة وتطاير الزجاج وتكوم اليافعين على ألأرض يصرخون من ألألم وسالت دمائهم كدماء عذراوات قبل الزفاف..عمت الفوضى كل القاعات وساحات الصرح الثقافي وكأن يوم القيامة قد جاء مبكرا.وظل الفتيان اليافعين ممدين على ألأرض يصرخون ولا أحد يسعفهم فالكل مسجى على ألأرض يصرخ من آلامه المروعة..الكل مصاب.. والكل مجروح..الغبار ألأسود يغطي القاعات والممرات .. والكل مذهول لايعرف ماذا يفعل ..الزجاج المتطاير إنغرس في ألأجساد وفروات الرؤوس والوجوه.. الكل ينزف.. والكل يطلب الرحمة والنجدة من هذا ألأتون الحارق.الطابق ألأرضي كان نصيبه أكثر.. والأقسام القريبة من مكان العصف كانت تتمزق لها ألأفئدة.المدرس- الخبيربشؤن الفن والتحليلات ألأيحائية – مسجى على ألأرض كفارس ضاع جواده في وطيس الحرب الدامية.. عاجز عن النطق.. وعجز عن إسعاف طلابه الذين هم أعز على قلبه من أبناءه.. هو ألاخر يطلب النجدة والمساعدة في هذا الزمن الصعب.. ولكن أنى للاخرين من نجدته وهم ينزفون دمائهم ويكادون يلفظون أنفاسهم ألاخيرة..صورة مأساوية قد تتكرر في أي لحظه في زمن ومكان ضاع فيه ألأمن الى ألأبد.
  أما ألأب الروحي لهذا الصرح الثقافي العريق فقد كان يتلمس طريقه في ظلام الغبار العاصف يصرخ بأعلى صوته يستفسر عن هذا وذاك.. كان رجلا فنانا في عمله ومركزه الوظيفي..ولحسن الحظ لم يكن مصابا جسديا ولكنه كان ممزقا روحيا وأصابته تعادل كل الجروح .كان يحمل عفويا علبة من المناديل الورقية ويمسح دماء هذا الجريح ويركض الى تلك الجريحة ويصرخ بأعلى صوته.. .. أين سيارات ألأسعاف..كان هائجا كأسد لايعرف الخوف وألأنكسار..يركض من طابق الى طابق ومن قاعة الى أخرى .. يحمل هذا الجريح الشاب وتلك ألأستاذة الفاقدة لوعيها وهذا ألأستاذ الذي فقد  قابلية النطق..الغبار الكثيف يحجب الرؤيا عنه.. يصرخ بأعلى صوته..هل أستاذ فلان سليم وهل إستاذه فلانة على قيد الحياة .. وهل هناك طالب قد فقد حياته.. نسي أهله وعائلته.. فهذه هي عائلته وكل هؤلاء الطلبة أبناءه..هؤلاء الطلبه هم ديمومة الفن والجمال والحياة.. وهو لايريد أن يفقد أي عنصر من هذه العتاصر المهمة في هذا الزمن الناري.الجمال .. الفن.. الحياة.. يتم إغتيال الجميع أمام أنظاره. كان فارسا مقداما في زمن ألأنحدار وألأنتحار.إنتهت ساعات الجحيم وأستقر اليافعين في مراقدهم في المستشفيات يأنون كأنهم جنود أشاوس عادوا من جبهات القتال بعد خوضهم أشرس المعارك التي عرفها التاريخ الحديث.مالذي أقترفه هؤلاء الشباب ؟ ماهي المخالفات القانونية التي خرقوها؟ ماذا فعلوا سوى أنهم جاءوا الى هذا الصرح الثقافي .. الفني.. ألأدبي ليضعوا لمساتهم الشفافة من أجل الحياة والجمال.من المستهدف؟ هل هو المدرس الذي يمثل كنزا من كنوز العلم والمعرفة. هذا ألأنسان الذي وضع كل جهودة في خدمة ألحياة وخلق جيل واع سيكون له دور فعال في تطوير البلد الذي ينزحف جراحة على مدار الزمن.قال لي أحد ألأساتذة المتخصصين في دروس التمثيل:” إنظر الى هذه العصا..لها مداليل متنوعة. إذا مسكتها بهذه الطريقة فأنها تشير الى أنك عجوز تتوكأ عليها..وإذا مسكتها بهذه الطريقة فأنها تشير الى السيف الذي تقاتل فيه..وإذا مسكتها بهذه الطريقة فأنها تدل على أنك ضابط عسكري أو ما يُطلق عليها بعصا التبختر.. وإذا .. وإذا .. وراح يعدد لي مآربها ألأخرى.كان قد علق يده برقبته لأنه مصاب وجاء الى الصرح الثقافي .. إنه لايستطيع البقاء في البيت فحياته هنا في هذا الصرح المقدس.ثلاثة أيام فقط على حدوث الكارثة ولكن ألأساتذة وقسم من الطلاب يتوافدون الى بيتهم الثقافي الذي يمثل روحهم الشفافة وإصرارهم على مواصلة الحياة.
      أحد الطلبة كان يلتقط شظايا الزجاج المنغرسه في تمثاله الطيني الذي وضع فيه كل آماله وخبرته التي إستكملها على مدى السنوات الطويلة من دراسته.  ….حينما كان يخرج قطع الزجاج بعناية فائقة كأنه يهتم بطفله المدلل..كانت الدموع تترقرق في عينيه كمن فقد عزيزا على قلبه.  ….وهذا الفتى اليافع ينظر بحسرة وألم دفين الى هذا التمثال الذي وقف بخنوع وقد تقطعت أوصاله بسبب الهجمة الشرسه التي عصفت بهذا الجو الثقافي الذي لايعرف العنف منذ أن خُلق هذا العالم الذي تحول على حين غرة الى بؤرة من الصراعات القبلية والسياسية…إنه عصر الخوف والريبة من كل شيء. أما هذا الفتى اليافع  هو ألأخر يئن من جراحه النفسية والجسدية..كانت ساقه مصابه وأبى أن يبقى في البيت لأن نداء الحب والجمال دفعاه للقدوم على الرغم من عدم قدرته على السير بصورة طبيعية..شاهدُ زملائه يقبلوه ثم حملوه ووضعوه على حافة الشباك كي يستطيع الحديث معهم لأنه لايقوى على الوقوف..إنه فارس من الفرسان الذين يريدون أن يعيدوا الحب والجمال الى هذا الوطن الذي مزقته سنوات ألأقتتال على مدى التاريخ. هؤلاء الشباب قد عقدوا العزم لتغيير نمط الحياة لدامي في هذه ألأرض التي تحترق كل يوم بنيران الثورات الهمجية لتحرق كل ماهو جميل وشفاف. ……أما هذا البوستر الذي صممته أستاذه جميلة جمال نهر دجلة وعذوبة نهر الفرات . لقد وضعت فيه أفكارها الشفافة التي تنادي للوحدة وحب الوطن…” أيها العراق لاأستطيع أن أتركك”.. يالها من فكرة رائعة فعلى الرغم من المآسي التي يمر فيها بلدنا الجريح فأن رائحة النخيل تسري في دمائها.. وغذوبة مياه ألأرض الطيبة تغذيها …وتغاريد البلابل على أشجار البرتقال تمدها بأكسير الحياة..إنها ترفض مغادرة العراق على الرغم من الدماء الغزيرة التي تسيل كل يوم في الشوارع الرئيسية وأزقة الحارات الضيقة… إن هذه المدرسه هي كيان متكامل لعنصر الشفافية والجمال والحب الذي يفتقر اليه البلد فب هذ الزمن الناري الذي نعيش مفرداته كل يوم لا بل كل لحظة تمر في هذا العمر الذي قد ينتهي في أي لحظة غير متوقعة. سلاما لك أيها الصرح الثقافي .. وسلاما لفرسانك الذين هبوا كل من موقعه لأزالة آثار الدمار الذي خلفه ألأنفجار في لحظة من الزمن لقتل الجمال الكامن في روحك على مدى التاريخ.. إنهم لايحبون الحياة والجمال..إنهم يقتلون الجمال أليس كذالك؟…….
[email protected]