بعد سقوط الموصل على يد ارهابيي داعش ، وتسارع العدوى وصولا الى مشارف بغداد ، تكون العملية السياسية قد شارفت هي الاخرى على السقوط ان لم تكن قد سقطت فعلا ، بعد ان استنفذت مبررات استمرارها ، وربما أهدافها بزج البلاد في اتون الحرب الاهلية والتقسيم . في وقت سابق ، إدعى القائمون على هذه العملية قدرتهم على الانتقال بالبلد الى واقع افضل . لم يكن دحض هذا الادعاء يسيرا قبل خروج القوات الامريكية نهاية العام 2011 ، حينها تلاشت القدرة والرغبة على ضبط المسارات ، وبدى واضحا انكشاف الفشل في اقامة نظام سياسي وحكومة فاعلين .
تاليا لذلك ، انزلق النظام السياسي مبتعدا عن مفاهيم الشراكة والتعاون نحو التفرد والصراع ، وتواتر ممارسة السلطة عبر الأفراد والاحزاب والمكونات بدلا من المؤسسات والقوانين ، وأُجيزت الخروقات والانتهاكات بإسم الاكثرية ، في حين تشاركت بعض اجزاء القضاء التعسف بحق الاقليات الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية .
استحالة العودة بالعراق الى ماقبل احتلال الموصل ، والتي عبر عنها احد القادة الكرد ، تكشف المعضلة الراهنة في الفشل وحتى التآمر وعجز العملية السياسية عن تجاوز خطاياها لالغياب الآليات ، بل لإنعدام الإرادة والشجاعة الاخلاقية ، وهو مايجعل التغيير الشامل ضرورة حتمية .
عندما اسس الامريكيون لعملية سياسية تقوم على ( التمايز ) فإنها سرعان ماانحدرت الى ( التمييز ) الطائفي ، ومن ثم الحرب على الاختلاف والتعددية بجميع اشكالهما ، عليه فان اية مقاربة للحل لاتأخد بتعددية عناصر الصراع لن يكتب لها النجاح ، وان الصراع الطائفي ليس سوى بعد واحد في معركة متعددة الجبهات تقوم بها القوى السياسية للإستحواذ على موارد القوة والنفوذ من سلطة ومال .
وَصْفُ الرئيس اوباما للحالة العراقية بأنها ” حرب اهلية واسعة النطاق ” يضعها في فضاء أوسع من الحرب الطائفية او الحرب على الارهاب ، ويحيل المعالجات الى عملية سياسية بديلة وشاملة . الدعوة لحكومة انقاذ وطني تكررت قبل وبعد ذلك على لسان السيد اياد علاوي زعيم ائتلاف الوطنية ورئيس اول حكومة عراقية بعد التغيير . يجد علاوي نفسه معنيا اكثر من غيره في البحث عن حلول للأزمة بتعقيداتها الحاضرة ، فالتهديد للوحدة يضرب صميم مشروعه الوطني .
السؤال الإشكالي هو لماذا حكومة الانقاذ الوطني مع وجود مجلس نيابي منتخب ودستور مكتوب وآليات واضحة للمستقبل ؟ واذا كانت العودة الى الدستور والمؤسسات هي الهدف النهائي لحكومة الانقاذ فلماذا الدوران في حلقة مفرغة من اضاعة الوقت والجهد اذن ؟
رغم منطقية التساؤل الا ان مشروع الانقاذ يبدو اكثر واقعية ومنطقية ايضا ، فالعملية السياسة الهرمة ، وبعد اثني عشر عاما ، باتت اكثر عُقماً ، الى درجة عدمت معها قدراتها الذاتية ، وكذلك القدرات المؤسسية ، على انتاج الحلول أوالاستجابة للتحديات التي تجاوزت إمكاناتهما الوظيفية والاخلاقية ، فحتى الانتخابات التي منحت هذه العملية شرعيتها ، ومثلت أمل التغيير الوحيد ، لم تستطع كسر جدارها الصلد ، بعدما اخفقت في تبديل الوجوه والمناهج او تحقيق الاصلاح ، لينحصر التغيير إما بعمل عنيف يحطم هيكل العملية السياسية او بحصول ظروف تجعل التوافق على مغادرتها ممكنا . لم يكن احد راغبا في سلوك المسار الاول او ضامنا لنجاحه ، بينما هيأت الظروف العصيبة لما بعد سقوط الموصل فرصة شجاعة لريادة الخيار الثاني .
ردود الافعال الدولية والاقليمية تعبر عن القلق البالغ من الغرق في المستنقع الجديد ، فلامصلحة داخلية او اقليمية او دولية مؤكدة فيما يحصل ، كذلك فإن التجييش الداخلي لمواجهة المخاطر ينذر بمزيد من التداعيات والكوارث . وسط هذه الصورة المهتزة لايبدو السيد المالكي متورطا في مؤامرة من هذا القبيل ، لكنه يبقى المسؤول الاول عن الفشل الذي خلط اوراقا عديدة لن يفلح الحل الامني منفردا في اعادة ترتيبها .
ان اعادة رسم المشهد تتطلب حلا سياسيا مواكبا للحل الامني في ضرب داعش والقاعدة والواجهات الارهابية الاخرى ، ولن يكون ذلك ممكنا بإستمرار تصدي السيد المالكي او منهجه لصناعة القرار ، وهو ماوردت بصدده تصريحات واشارات واضحة من اطراف دولية عديدة ومهمة ، جاءت منسجمة مع ارادة سياسية وطنية واسعة .
في النهاية ، يبقى مصير البلد مرهون بشجاعة القوى الوطنية وعلى رأسها السيد اياد علاوي في التحشيد الشعبي والاقليمي والدولي لنصرة وحدة العراق وهو ليس بالامر الهين في بيئة من الاستقطاب العام الذي تعمل على تغذيته بعض الاطراف السياسية المعروفة ، لكنه ليس مستحيلا ايضا امام ارادة العراقيين التاريخية الصلبة ومخاوف الاطراف الاقليمية من الانفجار الذي سيزعزع المنطقة برمتها لاسمح الله .