قبل الدخول في تفاصيل الموضوع لابد من الاعتراف بأن الفساد في العراق لا يمكن أن يقهر مادام هناك خلطٌ بين السياسة والدين والولاء والعمالة. إذ لا يمكن لمختلس عراقي، كبيرا كان أو صغيرا، أن ينجو من الحساب والكتاب بدون دراية الحكومة والمجتمع العراقي، بمساجده وحسينياته، وبدون حماية السلاح المتسيدّ الذي لا يغلبه غلاب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى لا يمكن تهريب الأموال المهربة، وهي بالأكوام، بدون تعاون وتفاهم وتساهل وترحيب من دول الجوار، لينتقل منها إلى الدول الأخرى، بعد ذلك.
والآن، تعالوا نقرأ هذه الأخبار العراقية.
“أعلن عضو اللجنة العليا لمكافحة الفساد، سعيد ياسين، أن حجم الأموال العراقية المسروقة المهربة إلى الخارج بـلغ 360 مليار دولار”.
ومنظمة الشفافية الدولية، في تقريرها الصادر مطلع العام الحالي عن مؤشرات الفساد لعام 2020، وضعت العراق في كعب قائمة الدول الفاسدة، ومعلنةً “أنه قد احتل المرتبة 160 من بين الـ 180 دولة في العالم، في مؤشرها للفساد”.
والثابت، وبالوثائق التي تنشرها أجهزة حكومية عراقية وأجنبية وهيئات متخصصة في مراقبة الأموال المسروقة، أن كثيرين من حكام العراق الأمريكي، ثم العراق الإيراني، وقد كانوا، قبل الغزو الأمريكي، وقبل الاحتلال الإيراني، فقراء معدمين لاجئين في دول الاغتراب، قاموا بشراء عمارات وقصور وشركات ومصانع ومزارع في إيران وسوريا ولبنان وبريطانيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا وتركيا والأردن ودبي.
والمؤكد، والحالة هذه، أنها لم تكن مخبأة في جيوبهم وحقائبهم، لنصدق أن الضابط المفتش (الأهبل) عجز عن اكتشافها، أو أنها لم تكن مجوهراتٍ على صدور زوجاتهم وأذرعهن، ثم تم بيعها في بلد الوصول وتحويلها إلى نقد، بعد ذلك.
طبعا، هناك احتمالان. فلأنها أموال طائلة بعشرات الملايين فإما أن يكون أصحابها قاموا بتحويلها من حساباتهم الشخصية في المصارف العراقية إلى حساباتهم الشخصية في الدول المضيفة، أو بصفقات استيراد وهمية لم تعترض عليها سلطات الدول التي استقبلت تلك المسروقات، أو أنها كانت في صناديق وحقائب وتمكن المهربون الكبار من تأمين مرورها عبر الحدود إلى دول الجوار، بسلام.
رغم أن أغلب الدول التي تتشدد في تطبيق قوانينها التي تمنع تهريب العملة تفرض على المسافرين القادمين إلى مطاراتها ومنافذها الحدودية أن يصرحوا عن المال الأجنبي الذي يحملونه نقداً، إذا كان أكثر من حدٍ معين، يختلف من دولة إلى أخرى، ولكنه في كثير منها يكون بما يعادل عشرة آلاف دولار أمريكي.
وكثيراً ما يتعرض القادمون والمغادرون لتفتيشٍ دقيق وفوضوي مزعج ومحرج، بحثا عن أموال غير مصرح بها، خصوصا الذين يثيرون شكوك المسؤولين عن الجمارك.
حدث قبل مدة أن حوَّل مصرف عراقي عشرين ألف دولار إلى حساب تجاري عائد لشركة مسجلة في أمريكا، تسديدا لدينٍ موثق بفواتير حقيقية، لكن البنك الأمريكي أصرَّ على طلب بيانات أخرى تعجيزية عن أصل الدين، وأسباب التحويل، ثم رفض قبول الحوالة، أخيرا، بعد أسابيع من الأخذ والرد، وأعادها إلى أصحابها في العراق، دون إبداء الأسباب، وذلك ضمن أجواء محاربة تبييض الأموال.
ولكنْ، وفي نفس اليوم، قام المرسل العراقي بتسليم مبلغ تلك الحوالة لمكتب تصريف أموال عراقي في بغداد، وبعدها بدقائق تلقى صاحب الشركة الأمريكية مكالمةً هاتفية من مكتب خدمات مالية عراقي في أمريكا، وأبلغه بوصول (أمانة) نقدية بمبلغ عشرين ألف دولار، وطلب الحضور لتسلمها. وهذا ما كان.
فهل يعقل أن لا تكون الحكومة العراقية على علم بالمكاتب الخاصة المتخصصة بتصريف الأموال ونشاطاتها، وهل يعقل أيضا أن تكون السلطات التجسسية الأمريكية لا تعلم بمثل هذه النشاطات التهريبية المفضوحة؟
وهنا نأتي إلى مشروع قانون الرئيس الدكتور برهم صالح في 23 أيار/ مايو الماضي الذي قدمه الى البرلمان لاستعادة 150 مليار دولار تم تهريبها الى الخارج عبر صفقات فساد منذ عام 2003، والذي ينتظر أن يقره نوابٌ أغلبهم أصحاب أموال مهربة لعلهم يوافقون علىى استعادتها.
ومع الإقرار بصدق نوايا الرئيس، وبرغبته المخلصة لاستعادة تلك الأموال، خصوصا وهو يدعو إلى “تحالف دولي لمحاربة الفساد على غرار التحالف ضد داعش”، مشددا على ضرورة تجفيف منابع الفساد”، فإن أحلامه لن تتحقق.
وهنا مكمن العجب. فالرئيس خير العالمين علم اليقين بأن تلك الأموال قد تحولت إلى عقارات وأسهم وشركات مسجلة بأسماء غير مختلسيها، والحكومات التي يطالبها بتجفيف الفساد هي نفسها الحكومات التي استقبلت المسروقات، ورحبت بها، ومنحت أصحابها الرعاية والحماية والاحترام. وعوض صاحبها الشرعي، الشعب العراقي، على الله.