قصة قصيرة
توقف أمام الواجهة الزجاجية لمحل بيع الاجهزة الكهربائية ، وراح يُنَقِّلُ بصره على السلع والادوات البراقة واللامعة ، والمصابيح الملونة ، وكريستال الثريات التي توهجت مثل آلاف الشموس ..
كان طويلا بشكل يلفت النظر، ممتلأً، عريض الوجه ، شاربه كثيف ، كل شيء فيه يتعدى حدود المألوف ، حتى سترته كانت أكبر من جسده الضخم ، يبدو أنه يرتدي تحتها أكثر من قميص أو ربما سترة أخرى ، نظر الى ظله الذي راح يقصر كلما دنا من الواجهة الزجاجية ، وكأنه ظل طفلٍ صغير يقف الى جانبه ، فراح يدنو من الواجهة ويبتعد بحركة سريعة مراقصا ًظله الذي يستطيل ويقصر ، يقصر ويطول ، بلغ أقصى حدود قِصَرهُ عندما إلتصق وجهه وجسده بزجاج الواجهة ، وهو يرمق ظله الذي أصبح أطول من قدمه بقليل ..
تَشَّكلت على وجههِ إبتسامة عريضة عندما عكست إحدى المرايا المحدبة أنفه الملتصق بزجاج الواجهة ، شاربه بدا كحبل غليظ من طرفٍ ، ورفيع من طرفه الأخر، أسنانه الصفراء متباعدة ، نتوئات لحمية مشوهة في أماكن الاسنان المتساقطة ، تقلص وجهه عندما رأى تلك النتوئات ، وجهه يتقلص ، ينفرج ، يتقلص ، ينفرج إستهوته اللعبة ، فمدَّ لسانه ولعق الزجاج ، لصقه وراح ينظر اليه في المرآة المحدبة بفرح طفولي بعد أن تَضّخم فأصبح كأنه لسان كائن خرافي .
في الداخل جَلسَ الرجل خلف طاولة كبيرة ، عليها أدوات تندرج ضمن حاجيات المحل ، الواجهة الزجاجية ومافيها من اشياء تحجب عنه رؤية الشخص الذي يقف في الخارج ، لم ير سوى الشاربين الكثين ، مد عنقه يمينا وشمالا ، تزحزح عن كرسيه ، ثم إتكأ على مسندي الكرسي وقام نصف واقف ، الوجه العريض في الخارج توقف عن الأبتسام ، كَشرَّ ، عبس ، الرجل في الداخل يسقط على كرسيه متهالكاً ، دسُّ يده المرتعشة في جيب قميصه وإستلُّ تصريح الأجازة العسكرية المُزّور ، تفحصه بخوف ، إلتهم حروفه ، دَققَّ في التاريخ ، كل شيء على مايرام ، لكن الرجل في الخارج يزداد عبوساً وتكشيرا ، فتل شاربيه الكثين ، الرجل في الداخل يزداد خوفاً وذعراً ، ربما وشى بي جاري صاحب المحل المقابل ، أخبرهم بأني هارب من الخدمة ؟؟!!
كان عليًّ أن أختفي إسبوعين أو ثلاثة ، كل شهر ، ثم أظهر أسبوعاً واحداً لاأكثر !!
الرجل في الخارج مازال يتطلع الى وجهه في المرايا المحدبة والصفيح اللامع للمدافيء الكهربائية المركونة في الواجهة ، مرت سيارة من خلفه ، تماوجت ، أستطال رأس سائقها في المرآة المحدبة ، لَوَحَّ السائق بيده ضاحكاً ، ضحك الرجل في الخارج أيضاً ، أقتربت عجوز ووقفت الى جانبه ، تكور رأسها في إنعكاس صفيح المدفأة الكهربائية ، ثم إعوَجَّ وتمدد ، ظلت واجمة ، نظرت الى الرجل الطويل ، نظر إليها ، نظرا معاً الى وجهيهما في المرآة ، ثم إنخرطا في ضحك ٍ طويل ..
الرجل في الداخل يضغط على صدره ، تسارعت دقات قلبه ، لم تتح له أطراف السلع المعروضة والزاوية التي يقبع فيها من رؤية العجوز ، لم يلحظ سوى عمامتها السوداء ، أرآه خوفه أنها شرطي متنكر بثياب هندي من السيخ ، وهي مساعد للرجل الطويل ، سيقتحمان محله ويلقيا القبض عليه لامحال ، فتَّشَّ عن جحر أو زاوية ينضوي فيها ، وَّدَّ لو أنه ينصهر تحت الطاولة ..
الرجل في الخارج والعجوز يقهقهان ، نابها الوحيد في الاعلى لاينطبق على سنيها الوحيدين في الأسفل ، نتوئات الأسنان الساقطة أقل قبحاً من نتوئات الرجل ، رفعت شفتها العليا بأصابعها وألتصقت على الواجهة أمام المرآة المحدبة ، بدا نابها طويلاً ، مثل ناب الفيل ، رفع الرجل الطويل شفته العليا بأصابعه وإلتصق بالواجهة ، بدت أسنانه كأسنان القرش ..
مرت إمرأة مع طفلها الصغير، تعجبت لما يفعله الرجل الطويل والعجوز ، ظل الصبي واجما ، يُنقّلُ طرفه من الرجل الى العجوز ثم الى أمه ، جَذبته أمه وهي تستعيذ من الشيطان ، قاوم يدها لِيَرى المشهد حتى آخره ، قرصته من أذنه ، بكى ، إنتفخت فقاعة من أنفه ، عَظَّ َّيدها وأنفلت منها ، ثم وقف أمام الواجهة وقد إمتلأت عيناه بالدموع وراح ينظر بفضول ..
الرجل في الداخل يدور حول نفسه ، وحول الطاولة ، المكان يضيق ، يطبق على صدره ، فتح أزرار قميصه ، تنفس بصعوبة ، ثلاث رؤوس تطل عليه من الخارج ،لايستطيع ان يتبينها بدقة ، كان عليه أن يضع السلع بشكل يتيح له رؤية الآخرين بشكل أفضل ، بحث هذه المرة عن منفذٍ في السقف ، في الجدران ، في الصناديق الكارتونية حيث تكمن بضاعته ، فكر أن ينطلق هارباً من المكان ، لكنه عاد واستدرك الوضع ، فالشارع مزدحم ويعج بالناس ، وسوف يقع في أيديهم بسهولة ، سيمسكونه كما يمسكون كبش سمين ..
الرجل والعجوز ينظران الى الصبي الذي إنظم اليهما وراح يحدق في المرآة المحدبة وصفيح المدافيء اللامع ، لم تعترض أمه هذه المرة وحدقت هي الأخرى ..
مَرَّ شاب وشابة ، تسمرا أمام الواجهة ، ضحكا بصوت عالٍ ، على مايفعله الرجل والعجوز والصبي ، جذب الشاب يد رفيقته ، توسل وجهها إليه بغنج ، أن ينتظرا قليلاً حتى يحضرا المشهد الى آخره ، إستجاب الشاب ، نظر هو ، ونظرت هي ، في المرآة المحدبة وصفيح المدافيء ، والمرواح العمودية ، تفلطح أنف الشاب ، وإستطالت جبهته ، شعر رفيقته بدا منفوشاً على ريشات المروحة الكهربائة ، تجَهّمَ وجهها ، صاحت بغضب : هيا نترك المكان ، لم يستجب الشاب وظل محدقاً بشعر رفيقته المنفوش ..
الرجل في الداخل يضغط رأسه بيديه ، ينفش شعره ، لم يعد يبحث عن مخرج ، إستبد به الخوف وتملكه اليأس ، مَزَقَّ تصريح الاجازة المزّور، ونثر قصاصاته في الهواء ، تهالك على كرسيه ، تساقطت القصاصات مثل نثيث المطر على رأسه ، تطلع بحذر الى العيون المتلصصة من ناحية الواجهة ، غطى وجهه بجريدة قديمة وخفقان قلبه مازال يتسارع..
لكزت العجوز خاصرة الشاب الذي دفعه فضوله الى التعدي على الحيز الذي تقف فيه ، صاح متأوهاً ، نظرت رفيقته الى العجوز بأستياء ، لاحظ الرجل الطويل ان الطفل ماعاد يراقص ظله ، وأم الصبي إنشغلت بالمرايا التي تظهرها جميلة وقبيحة في ذات الوقت..
صاح رجل في الخمسين يسير على الجانب الآخر من الرصيف : ماهذه المسخرة ياأنتم ؟؟
ولمّا لم يَعِرهُ أحد إهتماماً ، عبر الطريق وإقترب منهم ، مَدَّ هو الآخر رأسه ، وإشرأب عنقه ، وراح ينظر حيث ينظرون ، تجمع آخرون على صياح الرجل الذي عبر الرصيف وصمت هناك ، مَدّوا رؤوسهم ، إشرأبت أعناقهم ، أحضر بعضهم أحجاراً وسلالم صغيرة ، ليتسلقوا عليها ، صعد من لم يجد سلالماً أو حجارة على ظهور الأخرين، ليتسنى للجميع رؤية واضحة ، أو لكي يروا وجوههم المتماوجة والمستطيلة ، وأنوفهم المفلطحة ، ورؤوسهم الكبيرة المنتفخة ، ونتوئات أسنانهم المنخورة ، والتي يتباين قبحها من شخص الى آخر ..
إزدحمت الواجهة الزجاجية بالرؤوس والعيون المتلصصة ، حتى لم يعد هناك أي منفذ لضوء الشمس والهواء ..
الرجل في الداخل يُنَقِّلُ نظره الفاتر بين الجدران والسقف والواجهة الزجاجية المزدحمة بالوجوه ، الهواء أصبح ثقيلا ، عفنا ً ، بهتت الألوان وإستحالت الى رمادي كابي ، فتح ماتبقى من أزرار قميصه ، لكن الأجساد التي حجبت ضوء الشمس ، لم تبقِ فسحة يتخللها النسيم ..
شَعَرَ بأن الارض تميد تحت قدميه ، الجدران تدور، السقف يقترب ويقترب ، يكاد يطبق على صدره ..
إنفرج الباب فجأة ، دفق من الضوء والنسيم تسللا الى الداخل ، وقف أمامه رجل طويل ، عريض الوجه ، شاربه كثيف بشكل يلفت النظر ، حَيّاه بأدبٍ ، أرادَ أن يسأله عن سعر المدفأة ذات المرآة المحدبة !!
لكن الرجل الذي في الداخل ، وقبل أن يجيب ، إستجمع ماتبقى له من قوة ، ثم إنطلق مسرعاً بإتجاه النور ..
جيكور