تعد إنخيدوانا أول شاعرة في التاريخ، ولدت قبل 4200 عام، وعاشت حياةً قصيرةً أمدها 35 عاماً، ويعني اسمها باللغة السومرية (الكاهنة العليا حلية السماء). وكان نفوذها السياسي والديني، بوصفها ابنة الملك سرجون الأكدي، لا يقل أهميةً عن كونها شاعرة. إضافةً للتراتيلالدينية، تركت 42 قصيدة، بحسب ما ورد في مقدمة مجموعة الشاعرة السورية – الكندية جاكلين سلام (62) عاماً ” أشجار إنخيدوانا” الصادرة عام 2024، عن منشورات إنخيدوانا في كندا، بالتعاون مع ( الضفدعة المجنّحة). تلك المقدمة، التي كتبها ياسر عبدالقوي” كاتب وفنان مصري” وهو من صمّم الغلاف ورسم اللوحات الداخلية للمجموعة، أورد فيها“ إلى جانب جمال وجودة أعمالها، كان لها تأثيرٌكبير، فقد قرّبت كتاباتها الآلهة من الناس، وصنعت تناغماً ما بين المعتقدات السومرية والأكادية، لخلق فهمٍ أغنى ممّا كان، لأيٍّ من الثقافتين قبلها“. وبحسب الألواح القديمة، فإنّ إنخيدوانا، تُعدُّ المؤلف العالمي الأول، الذي خطّ اسمه على كتاباته، حين كتبت؛ (من نظم هذه الألواح هو أنا إنخيدوانا، يا سيدي، وما أبدعته، لم يبدعه أحدٌ قبلي). إذاً ولّدت لنا إنخيدوانا، المؤلّف، حرفياً، للمرة الأولى في تاريخ البشرية. ونوافق عبد القوي القول، بأنّنا لا نعرف اسم مؤلف ملحمة جلجامش، ولا اسم مؤلف كتاب الموتى الفرعوني. إذاَ، إنخيدوانا، وفق ذلك، بالمعنى المجازي، جدّة كتاب وكاتبات العالم جميعاً.
ومن هنا تطلق عليها الشاعرة السورية – الكندية جاكلين سلام، اسم الجدّة أيضاً، ليس وفق النسب الإبداعي فقط ، لكونهما شاعرتين،وإنّما تجمعهما السلالة الآشورية الأكدية، التي تنتمي إليها شاعرة العصر القديم إنخيدوانا وشاعرة العصر الحديث جاكلين سلام، والكاتبة والمترجمة، التي ولدت في سوريا، مدينة ديريك، عام 1964. هاجرت إلى كندا 1997 .وهي عضو اتحاد كتّاب كندا، ولها مقالاتٌمنشورةٌ في مجلة (رايت ) الصادرة عن الاتّحاد. صدر لها: تطعم الغيمات برتقالاً 2022، جسدٌ واحدٌ وألف حافّة، دار هماليل، أبو ظبي، 2016، المحبرة أنثى، دار النهضة العربية، لبنان، 2009، رقصٌ مشتبهٌبه، الدار العربية للعلوم، لبنان 2005، كريستال، دار الكنوز الأدبية، لبنان، 2002. وديوانها الأول “خريف يذرف أوراق التوت” نُشر الكترونياً– شبكة المرايا الثقافية، بإشراف الدكتور علي بن تميم، 2001، ومن ثمّ نُشر ورقياً، في طبعةٍ كندية، 2015.
كواليس الترجمان
أشجار إنخيدوانا هي المجموعة الشعرية السادسة لجاكلين سلام، وتضمّنت ستين نصّاً للفترة 2015 – 2024 . تكمن خصوصية سلام في هذه المجموعة الجديدة، في أنها اشتغلت فيها على بؤرٍ معيّنة، يستطيع القارئ الدقيق رصدها، منها كواليس مهنتها في الترجمة الشفاهية والتحريرية بين العربية والإنكليزية، على سبيل المثال؛ الترجمة للقادمين الجدد إلى كندا كلاجئين. هنا توظيفاتٌ شعريّةٌ لعملها اليومي، إذ يندمج ضميرها الشعري مع عملها الترجمي، ففي محاكاةٍلحوار بينها وبين ولاجئ جديد، لم يتم تقرير مصيره بقبوله كلاجئ، ويحدث، كمونةٍ سرديّةٍ في النص، أن يموت أب اللاجئ، فتتدفق الترجمة شعراً وإحساساً إنسانياً بالآخر:
” أنا أترجمك، فيصير والدك أبي، وألمك محنتي والدمع في صوتك يبلّل صوتي…/ وأشكرك لأنك أعرتني كل هذا الشجن”.
وتبدر في أذهاننا مقولة” الترجمة خيانةٌ للنص” ذلك أنّ النصّ الذي حوى واقعة الترجمة، عنوانه” الخيانات والقسم”. وهناك أكثر من نص،يفعّل بؤرة تفاصيل العمل اليومي لسلام كمترجمة، منها نص” ألسنة ما بعد انخيدوانا“، فيه احتفاءٌ بتلك التفاصيل، كما اهتمامٌ شعريبجزئياتٍ صغيرةٍ، وكبيرةٍ، إذا ما نظرنا إليها على نطاقٍ فكري، فتفكّر بأزمة اللغة العربية حين تترجم للمهاجرين الجدد، وكيف يغترب العقل واللسان عن لكنة ولغة البيت الأول، بيت الطفولة والشباب والبلوغ، في بلدتها “ديريك” في سوريا. وكما في النص السابق تفاعلت مع أحزان اللاجئ الذي مات أبوه، هنا تتفاعل مع امرأةٍ مُصابةٍ بانهيار عصبي، تناشد عدم إدخالها في مستشفى المجانين، تنقل كلماتها العامية مُترجمةً إلى الآخر هناك، الشاعرة والمترجمة حزينتان حزناً مضاعفاً على المرأة المنهارة، متفاعلةً معها، كأنّها مصيبتها هي، أي يتآزر الفعل الترجمي والإحساس الشعري في إيصال المعنى، مثلما نقول” الشاعر يترجم أحاسيس الناس في قصائده”. وإذا كان الفعل الترجمي مجازيّاً لدى عامة الشعراء، فإنه لدى سلام هو عين التآزر بين الترجمان والشعر.
الجدّة إنخيدوانا
البؤرة الفاعلة الأخرى في المجموعة، هي إنخيدوانا، التي حملت عنوان المجموعة، وقد إضيفت فيه مفردة أشجار، بما تحمله هذه الكلمة من مجازات، تمثّلها الامتدادات الجذرية لشاعرة الحكمة إنخيدوانا، في التراث الأدبي لحضارة وادي الرافدين. إذ يلحظ القارئ الدقيق للمجموعة، هذه الامتدادات العريقة، زاهرةً في التعشّق الروحي بين الجدة الشاعرة القديمة وحفيدتها المعاصرة. هو تعشّقٌ يتّخذ تفصيلاتٍمضمونيةً مختلفة، منها صناعة حلقةٍ وسطى بين الجدّة والحفيدة عبر” شهرزاد” رواية ” ألف ليلة وليلة” المؤلف الشهير في التراث الأدبي العربي، واتّهام الأخيرة بالغواية استعاريّاً، إذ هي من أوائل نساء العرب، التي أصّلت الحكاية بدلاً عن السيف والموت صمتاً. يرد ذكر إنخيدوانا في متون نصوص المجموعة أكثر من خمس عشرة مرة، أما العناوين، ففضلاً عن عنوان المجموعة، الذي يتكرّر على إحد النصوص، هناك عناوين أخرى: ألسنة ما بعد انخيدوانا، ما ذا لو أنني آخر حفيدات لإنخيدوانا . تلتحم في بؤرة إنخيدوانا مفاصلُ عديدة، منها مفصل الوطن – المنفى، بالتفاعل مع المكان، ومع امرأة كندية أو شرقية تتنزّه على شاطئ البحيرة هناك، فتسقط سلام تصورّاتها بأنّ هذه المرأة ” إنخيدوانا في عودةٍ أبدية”. وإذا كان عنوان النص الذي احتوى هذا التفصيل” جواز سفر إلى العدم” فإنّ الشاعرة المعاصرة مصيرها الأليم من المنفى إلى العدم، أي اليأس المُحتّم من العودة إلى الوطن الأصلي، حيث تكتب تلك المرأة بتمثيلها المعاصر كشاعرة، أو بجذورها القديمة كإنخيدوانا أزلية:” الأوطان تفقد الصلاحية مثل جوازات السفر”، ومن ثمَّ فإنّ ثنائية الوطن – المنفى، تمتدّ في نصوص المجموعة، بتمظهراتٍ متجدّدة، تعكس عمق الجراح التي أنزفتها الهجرة في روح سلام، مثل قولها في نص” أبجدية الهجرة ثانية”:
” حين تهاجر ثانية لا تأخذ معك كتاباً/ دعِ المقدّسات تعيد النظر في الجدران/ لا تأخذ مفتاح البيت/ دع باب البيت مفتوحاً للغرباء والكلاب”.
فضلاً عن شعرنة السيرة الذاتية كمترجمة، هناك نصوصُ سيرية، عن يومياتها من الوطن إلى المنفى، بالإضافة إلى ثنائيّاتِ عدّة، اغتنت بها المجموعة، مثل الموت والحياة، والكلام والصمت، فضلاً عن موضوعاتٍ كبرىٍ مثل الحب والحرب وهي بحاجة إلى المزيد من الإغناء، بما لا يتّسع له المجال هنا.
أشجار إنخيدوانا، هي تراتيلها ونصوصها الحكمية، المتوغّلة في القدم إلى الآن، تتمثلها وتتماهى بها الشاعرة جاكلين سلام، في التقاطاتٍباهرة، مستثمرةً توظيف امتداد الارث الآشوري الرافديني إلى حواضر العصر الحديث في الشرق الأصل والغرب المنفى، بأساليب شعريةٍ صافيةٍ متوحّدةٍ مع نثريات السيرة اليومية.