الحسين لم يكن حالة طارئة أو إستثنائية، في المرحلة التي انطلق منها، في السياق الذي توج بثورة احتفظت في أحشائها بالبركان الذي قضى أول ما قضى على دولة بني أمية التي امتدت من حدود الصين إلى حدود أوروبا الجنوبية و الغربية. فالقول أن الحسين لم يكن حالة طارئة أو إستثنائية، فمعنى ذلك إنه امتداد طبيعي لرسالة جده النبي محمد و أبيه علي بن أبي طالب. لذلك فإن معركته في كربلاء تمثل إمتدادا و إنعكاسا لمعركة بدر بكل دلالاتها ومعانيها. فالحشد القرشي في بدر الذي رفض رسالة محمد، ثم اتخذ كل السبل للقضاء على صاحب الرسالة أوتهميشه بالحملة العسكرية عليه، عاد بعد ستة عقود من أوسع باب و بقوة أكبر وبزخم مادي وعسكري أضخم، لتحقيق نفس أهداف الآباء و الأجداد القرشيين ضد حفيد صاحب الرسالة، في ثأر تأريخي، تكلل بنصر مؤقت، أعقبته هزيمة منكرة رمت بالنصر كقشة في رياح الخذلان والضياع. وأفضل وصف جاء لمعركة كربلاء هو ليزيد بن معاوية، حيث قال: هذا يوم بيوم بدر، مُنشداً (قد قتلنا القوم من ساداتهم .. وعدلنا ميل بدر فاعتدل).
واجه النبي محمد رفضا شرسا وعنادا غليظا من قبل قريش وحلفائهم، قلّ مثيله، ولم يلن يوما عن طيب خاطر. وجلّ هذا الرفض جاء من أحشاء الحسد و الحقد القبلي وخصوصا من قبل بني أمية ضد بني هاشم. يصف أبا جهل المخزومي هذا العناد والحسد بدقة، قائلا “تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أَطعموا فأَطعمنا، وحملوا فحملنا، وأَعطَوا فأَعطينا حتى إِذا كنا كفرسي رِهانٍ، قالوا: منا نبيٌّ يأْتيه الوحي من السماء، فمتى ندرِك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه.” وكانت العداوة لمحمد و دينه أشد و أغلظ من قبل الأمويين، بقيادة أبو سفيان و إبنه معاوية الذين قادا حروبا شرسة ضد الرسول وأتباعه. وبعد طول سنين من بذل كل جهد ضد الإسلام، وخوض حروب شرسة ضد المسلمين، لم يجد أبو سفيان و معاوية حلا سوى الإستسلام أثناء فتح مكة، حيث أصبحا من الطلقاء (أي الذين عفى النبي عنهم). لذلك فإن كبار الصحابة المشهود لهم بالصلاح والتقوى، قالوا لمعاوية وجها لوجه، إنه لم يسلم بل استسلم، بل وأكثر من ذلك، قال أبا ذر له أن النبي قال فيه إنه فرعون هذه الأمة!
إذا تفحصنا التأريخ المدون، وخصوصا التأريخ الذي كتبه المؤرخون المحسوبون على أهل السنة والجماعة، نجد بين السطور حقائق مسكوت عنها بالتوارث، بذرائع كثيرة، أشهرها عدم الخوض في الفتنة. وكلما تقادم الزمان و أدبر جيل، أمسى السكوت أكثر سمكا و البحث عن أصول الأحداث وكنهها أشد حرمة، من قبل الجمهور الأغلب من المسلمين، والذين يسمون بأهل السنة والجماعة (الإسم تبلور بعد تتويج معاوية ملكاً إبان حربه الإنتقامية ضد أهل بيت النبي، فسمى عامه الذي انتصر فيه على أهل البيت عسكرياً عام الجماعة، نكاية بعلي بن أبي طالب والذي استن له ولأهل بيته لعناً على المنابر لعقود من الزمن).
يعتقد الشيعة أن الأزمة بدأت بسقيفة بني ساعدة أثناء وفاة الرسول، حيث تجادل المهاجرون من قريش (أبوبكر و عمر و أبو عبيدة) مع الأنصار على الأمارة. فكانت حجة المهاجرين أن الأمارة تكون في قريش. وهذا الإستدلال يوحي بأن حجة المهاجرين مبنية على أساس شرعي وهو أن الأمارة يجب أن تكون من قريش (أي أن هناك تفضيل قبلي أو مناطقي لإسناد مهام الأمارة بين المسلمين إلى قريش). ولكن سرعان ما يختفي هذا الإستدلال في رؤية أهل السنة لتأريخ الخلافة التي يعتبرونها شورى بين المسلمين، ولاحقا أضيفت مسألة إمامة أبوبكر للصلاة، مع عدم ثبوتها على وجه اليقين، وبالرغم من أن أبابكر لم يستدل بها يوم خصامه، هو وعمر، مع الأنصار في السقيفة، ساعة كان أهل البيت بإشراف علي بن أبي طالب منشغلون بغسل وتكفين النبي. لكن علي بن أبي طالب رد على هذه الحجة بأنهم (أي المهاجرون) استدلوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (أي أنهم احتجوا بقريش، مع أن الأولى هو الإحتجاج بأهل بيت النبي لأنهم سادة قريش)، و قد أكد النبي على ذلك مرارا وتكراراً، أن عليا هو وصيه وخليفته من بعده. لكن العصبة المذكورة التي هرعت إلى سقيفة بني ساعدة أثناء وفاة الرسول، أصرّت على طمس الأجواء التي أكدت على أحقية علي، عبر خلق سياقٍ حُبك بدقة وعناية، وتضافرت العوامل من أجل إنجازه بعمل دؤوب قبل و بعد وفاة النبي. في الواقع، إن الأزمة لم تبدأ بسقيفة بني ساعدة، فالسقيفة نتيجة ومقدماتها طويلة. المقدمات الطويلة يختصرها عثمان بن عفان في قوله لعلي “ماذا أفعل بكم إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم سبعين نفرا في بدر.”، ولاحقا أخذ الأموييون بالثأر لقتلاهم ببدر، فقتلوا في كربلاء أكثر من سبعين نفرا من أهل بيت النبي وأشهرهم الحسين سبط رسول الله وريحانته، فاعتدل بحسب يزيد بن معاوية ميلان الكفة في بدر. إذن ما قاله عثمان، هو قراءة لما كانت قريش تعيشه وتشعره لعقود من الزمن. وبما أن بني أمية كانوا الجماعة الأقوى في هذا الوسط المناوئ لأهل بيت النبي، فقد عملوا بذكاء و بخفاء في دفع شخصيات معينة نحو الخلافة لم تكن تملك الإمكانيات المعنوية والمادية في الوسط القبلي في مكة والمدينة، بدليل ضعف أبنائهم من خوض غمار المنافسة على الخلافة (لاحظ رد معاوية القاسي على عبدالله بن عمر و محمد بن أبي بكر في خصوص من هو أحق بالحكم). وهذا الدفع غير المباشر والسرّي كان بهدف تهيئة الظروف لتلقف كرة السلطة، كما عبر عن ذلك أبو سفيان وهو يحث بني أمية نحوها، مصرحاً، أن النبوة لم تكن إلا حيلة لنيل السلطة (نفس رأي أبا جهل). وفعلا هذا الذي جرى، حتى تم دفع الأمر إلى عثمان بعناية ودقة، كمفتاح لتسليم السلطة إلى بني أمية. وهذا الأمر لم يبت فيه وفق هذه النظرة من قبل السنة والشيعة بالعمق المطلوب، بل هناك تركيز شديد من قبل الفريقين على الشيخين أبوبكر و عمر باعتبارهما المؤسسين لهذا السياق، مع العلم أنهما ليسا سوى عاملين في الواجهة، في سياقٍ أعده وحرص عليه العقل الذكي لبني أمية. ويتضح هذا من خلال رفض كليهما لأوامر مباشرة من قبل النبي كالخروج في سرية أسامة، إلى درجة لعن النبي من تخلف عنها، وكذلك رفض عمر ومنعه النبي من كتابة الوصية بشكل واضح وصريح، وأحداث أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
يبدو أن رفض عمر لوصية النبي جاء في الوعي بالسياق المذكور وهو موقف قريش من بني هاشم، وقد عبر لاحقا عمر هذا الرفض بأنه لا يمكن إجتماع النبوة و الخلافة في أهل البيت، بسبب رفض قريش لذلك. ولو دققنا النظر في مقولة عثمان بن عفان حول كره قريش لأهل البيت و التعبير البليغ لأبي جهل أن قبيلته كانت في سباق محموم مع بني هاشم، لأدركنا أن وضع الخلافة في يد أبوبكر ثم عمر جاء بتخطيط دقيق وقف خلفه بني أمية والمعسكر القرشي برمته، لأن النتائج تدل على هكذا إدراك، فضلا عن ثمرة الخلافة التي سقطت في حضن الأمويين وليس في أحضان أبناء أبوبكر أو عمر. ويبدو أن أبابكر ندم على ذلك مبكرا قبل وفاته حيث صرح أنه نادم على اقتحام بيت فاطمة وإغضابها، ونادم على أخذ الخلافة متمنيا لو دفعها إلى عمر أو أبا عبيدة. ومن جهته فقد أكد عمر على هشاشة خلافة أبي بكر بقوله “كانت خلافة أبي بكر فلتة وقانا الله من شرها”. والغريب في هذا الأمر، أن عمر رفض أن يؤتى بالدواة والقرطاس إلى النبي لكتابة الوصية، رغم أن النبي كان يلح على ذلك، بينما كان عمر يقول حسبنا كتاب الله، مع أن كتاب الله يحث المسلمين على كتابة الوصية إذا حضروا وفاة شخص ما، فما بالك إذا كان الشخص المقبل على الوفاة هو نفسه يطلب كتابة الوصية. والأغرب أن عمرا قَبِل بوصية أبابكر مع أنه كان في شبه غيبوبة أثناء وصيته، وقد كتبها عثمان بن عفان لوحده. و كدواليك في نفس السكة والمسار، أوصى عمر للخلافة من بعده لستة أشخاص، أدرج فيها إسم علي بن أبي طالب للتغطية على عملية تهيأة تسليم الخلافة لعثمان، لأنه كان مطلوبا أن يتسلم عثمان الخلافة، لكونه أموياً، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام الأمويين لتسلم السلطة من كل جوانبها. وكان عمر وضع عبدالرحمن بن عوف حَكماً لشروط عرف مسبقا أن عليا لا يرضى بها، ويقبل بها عثمان. وبتسلم عثمان مهام الخلافة دبّ الفساد والفوضى أرجاء الخلافة، وهذا ما أدّى إلى حدوث ثورة عارمة من قبل الصحابة والتابعين على عثمان، وتسبب في مقتله. والأهم من هذا هو تعيين عمر لمعاوية كوالي على الشام. ومن هنا تشكلت نواة دولة الأمويين، والتي تعززت بصعود عثمان وإجتماع الأمويين حوله وإستحواذهم على مفاصل السلطة.
يبدو أن أهل البيت كانوا على وعي تام بهذا السياق منذ أول لحظة، لكنهم باعتبار كونهم ورثة وحملة الرسالة، أصبحوا الضحية الكبرى للحسد والبغض والعداء القبلي، منذ أول يوم من بعثة النبي. وبسبب مكانتهم الدينية وإلتزامهم بأدق تفاصيل الدين، فلم يكن لهم سبيل بأي حال إلى الوصول إلى الغاية بتبرير الوسيلة، كما كان يفعل خصومهم. فقد ذهبت فاطمة مع علي، بعد وفاة الرسول، تستجدي الأنصار والمهاجرين، وتذكرهم بوصية النبي في علي كخليفة، ولكن دون جدوى. وانبرى الحسين لعمر أثناء خطبته على المنبر، قائلا له “إنزل عن منبر أبي.” وهناك شواهد أخرى كثيرة لعلي والحسن وأولادهما مع الرافضين لهم، يذكرونهم بوصايا النبي وتعاليمه. ولكن بسبب الرفض القريشي الشديد لأهل البيت، تحولت حياة ومهام أهل البيت إلى صعاب جمة وإزدياد في المحن كلما مر الزمان. وهكذا فحين آلت الخلافة إلى عثمان، كان بنو أمية قد أسسوا دولتهم في الشام التي ترك فيها الرومان إرثا كبيرا، على مستويات شتى، وأهمها إرث النظام الصارم في تطبيق الأوامر، وهو نظام سايكولوجي أجتماعي ورثه الشعب الروماني أبا عن جد، وهو ما أفاد معاوية في حربه ضد علي بن أبي طالب (كان معاوية يتباهى بإلتزام جنوده بأوامره قياما وقعودا). لذلك فحين استفاق المسلمون وأدركوا فداحة عدم تطبيق وصية الرسول في أهل بيته، هرعوا إلى علي يجبرونه على تسلم الخلافة، ولكن كما يقال بعد خراب البصرة، لأن دولة كاملة الأوصاف كان قد أقامها معاوية في الشام. بينما وقع أمر علي بين أهل العراق الذين كانوا مجتمعا خليطا ومتنافرا ومنسوجا من مدارس فكرية وفلسفية مختلفة، ديدنها الجدال والخلاف وعدم الرضى بالإقرار بسهولة، تماما كما كانت مجتمعات اليونان المفككة والمتنافرة في العصور الفلسفية والحربية (تذمر علي بن أبي طالب من عدم إنصياع جنوده لأوامره عكس جنود الشام تماما). وهذا الواقع لم يكن في صالح علي أثناء مواجهته مع معاوية المتمرد والباغي. لذلك، أمسى أمر الإصلاح أكثر تعقيدا خصوصا بعد إغتيال علي بمؤامرة كان الأموييون خلفها، فلم يستطع الحسن بن علي من هداية أمة تفككت واضطربت وتاهت شذر مذر، فلجأ إلى الصلح للحفاظ على ما تبقى من إرث جده المعرض للزوال. وفي ظل هذه النتائج والعقابيل، وحيث تمادى الأموييون في ظلمهم وتنصل معاوية من الوفاء ببنود اتفاقه مع الحسن، لم يكن أمام الحسين بن علي سوى تصحيح المسار بثورة مسلحة، تُفجر المسكوت عنه منذ وفاة النبي والمدفوع نحو ظلال المجهول، بأمل الحفاظ على ثنايا هذا التراث المخفي حيّاً ومنتشرا للأجيال القادمة للمسلمين، ولكي لا يضيع الحق على غاربه، فكان قدم دمه كتضحية في سبيل ذلك، وهو فعلا ما أدى إلى أول نسف لعرش بني أمية حتى تهاوى نهائيا في عام 132 للهجرة. لذلك فإن موقعة كربلاء تضاهي معركة بدر أو أحد أو الخندق في أهميتها، وفي مواصلة رسالة النبي في صد الخط الذي امتد من مشركي مكة وأدامه بعض الطلقاء لاحقا في بلورة تغيير سنة النبي وهو تغيير أخبرنا به النبي أن رجلا من بني أمية يقوم به. ومازالت آثار هذا التغيير منتشرة بين المسلمين!
ولكننا اليوم ونحن نعيش أجواء ذكرى هذه الثورة العظيمة، التي تجسد روح الإسلام ومعانيه السامية، نجد ضياعا جما لجوهر هذه الثورة من قبل فئات ثلاث. الأولى فئة تأريخية كانت تنصب العداء للنبي وأهل بيته وهم اندثروا ولم يعد لهم وجود، ولكنهم تركوا تراثا مازال يخدع الكثيرين بخداع شديد. والمثال الأبرز لهذا التراث وجود أحاديث موضوعة مازالت تلقى رواجا بين المسلمين وهي تدور حول تعظيم يوم عاشوراء، ضد أهل البيت ونكاية بهم، كحديث صوم اليهود في عاشوراء، وحين يسألهم النبي عن سبب ذلك، يرد اليهود أن هذا اليومَ صالحٌ نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم (لاحظ جوهر الحديث هو نكاية بالحسين الذي قضى الأموييون عليه و على آل بيته مما يعني أن المنتصر هنا شبيه بني إسرائيل و المقضي عليه شبيه عدوهم وهو فرعون، مع العلم أن اليهود لا يستعملون التقويم الإسلامي!). الثانية هي الفئة التي تقدم التراث الممتد من الأمويين على أنه هو الإسلام الصحيح. وهذه الفئة وإن كانت لا تظهر العداء لأهل البيت، لكنها تحط من قدرهم وترفع من شأن أعدائهم، وهذه الفئة وإن كانت أقلية بين المسلمين، لكنها بفضل الأموال الطائلة والدعم الغربي استطاعت أن تنتشر في العالم كله، وتجد لنفسها أتباعا كثر في أرجاء المعمورة. الفئة الثالثة هم الشيعة وهم في الواقع يؤدون العمل الذي يساهم في تكملة وتحقيق عمل تلك الفئتين، عبر تحويل ثورة الحسين إلى إحتفالات صاخبة ومهرجانات مبتذلة مليئة بما هو مخالف لتراث أهل البيت و رسالتهم، وهي تعكس أكثر ما تعكس العادات والتقاليد المتداخلة للهنود والسيخ مع ما هو موجود كفولكلور شعبي للقبائل العربية. و وسط هذه الفئات الثلاث، وهي متضافرة من دون اتفاق طبعا، تتعرض ثورة الحسين وتراث أهل بيت جده إلى التلاشي والإنزواء وقلة العزاء فيهما، نظرا لسوء الأمثلة التي تدعي أنها تحمل أعباء رسالتهم والتي تدفع بأجيال المسلمين إلى أتون الضياع و الوقوع في دوائر معاكسة للدين، كالإلحاد والمذاهب الأخرى التي تعتبر الدين خرافة.