23 ديسمبر، 2024 7:48 ص

إنثيالات من ذاكرة الماضي

إنثيالات من ذاكرة الماضي

الديرة.. المكان.. الربع… كائنات معنوية، ومرموزات حسية، تأبى الإقصاء من الذاكرة. وصحيح إنها قد تغيب عن الحضور، بتوالي السنين، وتنزوي بتراكم أعباء حركة الحياة،ولكنها مع ذلك، تأبى المحو، والاستلاب، مهما طال عليها الأمد..
فمرموزات الديرة، بكل كائناتها ، كثيراً ما تتجلى لنا باستذكارات حالمة، تحقننا برفاهية ذهنية، وتزقنا بسعادة معنوية، كلما اقفرت الذاكرة.. وتبلد الحس.. وأجدب الخيال.. وتعكر المزاج..

والآن، وبعد ما ينوف على نصف قرن.. استذكر من أرشيف ذاكرة الماضي.. كيف اصطحبني المرحوم والدي، في منتصف خمسينات القرن الماضي باللوري، من مفرق الشارع العام لقريتي، إلى مركز ناحية القيارة، لالتقاط صورة شمسية،لغرض سجل المدرسة. ويوم ذاك كان مقر الناحية، في بناية قبوية من الجص، على طريقة المعمار العثماني، فوق هضبة العين البيضة. كانت تلك، اول رحلة لي خارج محيط القرية، حيث السوق المتواضع، ومصفى القيارة، ومحطة القطار.

وعندما أتذكر بعواطف جياشة مرموزات الديرة في القيارة في تلك الحقبة، مكاناً، وزمانا، وربعا، وإنساناً.. فإنما أتذكر كل تجليات ديرتي العزيزة، مروراً بالشورة.. وحمام العليل، صعوداً إلى الموصل، التي ظلت مرابعها في الذاكرة، ايقونات نشأة حالمة، لزمن ولى، ولن يعود . وكيف لا، وديرتي هي الأم الكبرى، التي في فضاءاتها عشنا أيام الصبا، وانفتحنا فيها على الحياة، ليولد من رحم بيئتها المعطاء، الطبيب اللامع، والمهندس المتميز، والتربوي الكفء، والأديب المبدع، والشاعر المرهف ، والمهني المقتدر.

تعاشق متين بين مرموزات الديرة، في كائناتها الحسية، وبين الذاكرة الجمعية لإبن الديرة ، بعد ان سكنت تلك المرموزات أخاديد وجدانه، في إلفة مرهفة ، استعصت على الانفصام.