22 ديسمبر، 2024 10:42 م

إنتفاضة تشرين… بداية النهاية

إنتفاضة تشرين… بداية النهاية

سيقف التأريخ وقفه تأمل طويلة لرصد وتوصيف ملحمية انتفاضة تشرين، ولا يقتصر ذلك على البسالة الاسطورية والثبات البطولي بوجه القوات والمليشيات القمعية المدججة بالسلاح والوحشية المفرطة، بل حققت الانتفاضة أيضاً قفزات نوعية وتحولات جذرية في تطور الوعي الجمعي على الصعيد السياسي و الاجتماعي مع القدرة على التنظيم والتعبئة الشعبية، وانتاج منظومة قيمية وأخلاقية بديلة عن منظومة الانحطاط القيمي للطغمة الحاكمة.
يمكن إيجاز بعض منجزات الانتفاضة بتجلياتها في المشاهد الحضارية التي نشهدها يومياً:

– اندماج منظمات المجتمع المدني في الحراك:
منذ الاطاحة بالجمهورية الاولى لم تكن منظمات المجتمع المدني من اتحادات ونقابات سوى تنظيمات تابعة للسلطة وتندرج جميع نشاطاتها في سياق اجنداتها وبتوجيهات مباشرة منها. النقلة النوعية التي حصلت بعد الانتفاضة تمثلت بتلاحم واسناد نقابات المحامين والاطباء والمعلمين والطلبة ونقابات العمال ورابطة المرأة والمثقفين، بل ابدت تلك المنظمات ثباتاً وتحدياً شجاعاً ضد تهديدات وعنف السلطة، وقد اكد غرامشي على أهمية اندماج منظمات المجتمع المدني لتفعيل الحراك الثوري.

– توافق الريف مع المدينة:
من المعروف ان العقل الجمعي في الريف بكل المجتمعات في العالم يميل الى تبني الافكار المحافظة والقيم التقليدية، و من المعروف ايضاً ان الحراكات الثورية تهدف الى التغيير الجذري باتجاه التحديث وانتاج منظومة قيم جديدة، مما يشكل صعوبة في اجتذاب الريف للتوافق مع المدينة، ومع ذلك اجتذبت الانتفاضة الآلاف من ابناء الريف الى ساحات التظاهر يرفعون الاعلام العراقية و يهتفون بذات الشعارات، وكان غرامشي قد أكد ان تلاحم الريف مع المدينة يمنح الحراكات الثورية تماسكاً ويكسبها قوة للتغيير.

– الروح التشاركية:
بدت ساحات التظاهر و كانها مجتمعات شبه مشاعية في المال والغذاء واسعافات التكتك وتطوع الفرق الطبية والهندسية و الأعمال الفنية والثقافية وغيرها، واذا كانت تلك الصور تعكس مشاهد حضارية على درجة كبيرة من الرقي، فانها ايضاً تمثل بيانا احتجاجياً صارخاً ضد الاستئثار الاناني لسياسيي المحاصصة و اللصوصية، كما انها تمثل رفضاً لقيم اللبراليه الجديدة التي وضع بريمر اقتصاد العراق على سكتها، فالليبرالية الجديده ترى ان انانية وطمع الفرد من الفضائل المحفزة للأقتصاد، و انه أي الفرد العنصر الاساسي والوحيد في اقتصاد السوق، أو كما قالت تاتشر( ليس هناك شئ اسمه مجتمع بل هناك فرد وعائلة فقط )، فكان رد الانتفاضة ان المجتمع حقيقة، وان العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تكافلية تضمن العدالة الاجتماعية، و لا تحكمها انانية الفرد بل تشارك الجماعة.

– مشاركة المرأة:
لم تشهد تظاهرة في تاريخ العراق هذا العدد الكبير من النساء اللاتي تحلين بنفس القدر من الشجاعة وروح التحدي والتضحية، مما يشير الى ان المرأة قد تمكنت من تحطيم القيود التقليدية المحافظة التي حجبت دورها في ممارسة مسؤولياتها الوطنية إسوة بالرجل، وتلك بداية واعدة لثورة إجتماعية حقيقية.

– من مظلومية أو تهميش الطوائف الى مظلومية وتهميش المواطن:
لطالما كان الشعب العراقي منقسماً على نفسه الى كيانات اجتماعية أحاطت نفسها بأسوار حديدية من اليقينيات الطائفية والاثنية والقومية والحزبويه، حتى بات من شبه المتعذر التواصل فيما بينها، وقد استطاعت الطبقة السياسية الحاكمة من اعلاء تلك الاسوار عبر بث الريبة والشكوك والكراهية فيما بينها من خلال جيوشها الالكترونية و فضائياتها و المتكسبين من كتابها. كان الارهاب ورقة الطبقة السياسية الأخيرة، فما ان انتصر الشعب على الارهاب بتضحيات عشرات الآلاف – معظمهم من الفقراء -، حتى بدأت مرحلة التأمل و الحساب واتضحت الصورة بشكل صارخ، طبقة اوليغاركية من لصوص فاحشي الثراء، ومواطنون يعانون الفقر و امتهان الكرامة والبطالة وانعدام الخدمات بل و ضياع الوطن بكامله، أدرك المواطنون أنهم قد لا يشتركون بالدين أو المذهب، إلا ان المشتركات الحقيقية التي تجمعهم انتهاك حقوقهم الأقنصادية والسياسية و الوطن الضائع، وهكذا كانت الانتفاضة انحساراً للهويات الفرعية، واعادة تشكيل لهوية المواطنة.

– الجميع تحت خيمة الوطن:
رغم إن الشباب هم الأكثر عدداً و حماساً وهم الاعلى صوتاً بحكم طبيعتهم العمرية، الا ان ساحات التظاهر أظهرت تلاحماً بين الاجيال و من مختلف القوى الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة ، يقف فيها غير المتعلم مع المثقف والفنان والاديب و الاكاديمي، والجميع يهتف” نريد وطن”، التعبير المكثف الذي يكاد ان يختصر أهداف الانتفاضة كاملة، نريد وطناً يحيا فيه المواطن حراً كريماً ينعم فيه بكامل حقوقه الاقتصادية والسياسية، نريد وطناً مستقلاً من أي تدخلات لأطراف دولية أو اقليمية. من الطبيعي التركيز على التدخلات الايرانية بالدرجة الرئيسية، فقد تجاوز النفوذ الايراني الهيمنة على السلطة الى جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها من القمة الى القاعدة ، حتى باتت تصطدم مع كل تفاصيل حياة المواطن اليومية، ومع ذلك فان المواطن العراقي يدرك تماماً أن الهاوية التي بلغناها بما فيها هيمنة النفوذ الايراني و المحاصصة والفساد انما هي من مخرجات ما يسمى بالعملية الديقراطية التي اسست لها ووضعت قواعدها الولايات المتحدة ، بما فيها خطط وقوانين بريمر المئة، والتي وضعت اقتصاد العراق على سكة السوق المنفلتة، ومن يتجاهل الماضي – كما يقول ماركس – محكوم بالعودة اليه. يعرف القاصي والداني أن العراق منذ 2003 قد أصبح مسرحاً للصراع بين الولايات المتحدة وحلفاءها من جهة، وايران و مريديها من جهة ثانية، وفي كل منعطف يحسم الصراع لطرف منهما على حساب مصالح الشعب العراقي، وفي حالة تعذر الحسم تلجأ الاطراف الى اتفاق غير معلن وعلى حساب الشعب العراقي ايضاً.

آفاق الانتفاضة:
ربما لا تتمكن الانتفاضة الآن من تحقيق جميع أهدافها في إسقاط الطبقة السياسية ونظامها المحاصصاتي واحداث تغييرات جذرية لتأسيس نظام ديمقراطي حقيقي، نظراً لتشابك المشهد السياسي وما تمتلكه الطبقة الأوليغاركية الحاكمة من قدرات مليشياويه ودعم خارجي وشرعنة زائفة باسم الانتخابات والدستور، إلا انها الجولة الاولى وستتبعها جولات يكون فيها انتصار الشعب محتوما، طالما بقي مصمماً على تقرير مصيره بنفسه ودون تراجع ، ولو أحسنت الطبقة السياسية قراءة التأريخ وخضعت لمنطقه، لحقتت دماء أبناء شعبها ووفرت على نفسها عناء التآمر و التدليس والمراوغة، فلم تعد مماطلاتهم البائسه تنطلي على شعب خبر ألاعبيهم.