لكي يبقى الدكتاتور لابد له من حروب ولابد للحروب من جنرالات وأمراء حرب ؛ ولكي يبقى الجنرال لابد له من حرب ولكي تحدث الحرب لابد لها من دكتاتور ؛ فإذا ماتت الحرب إنتحر الجنرال وهرب الدكتاتور . هذا إذا كان الدكتاتور دكتاتوراً حقيقياً وكان الجنرال جنرالاً حقيقياً وإلا فنحن في سيرك دموي ومأساة عابثة يديرها مهرجون مجرمون وجهلة بألبسة الجنرالات .
التناقض والتغيير مشكلة أزلية باقية مادام التناقض بين الحق والباطل وبين العدالة والظلم وبين المدنية والتخلف وبين الهمجية والتحضر وبين الخير والشر وبين الآمان والخوف وسيبقى سعي كل طرف لفرض إرادته على لآخر ولكن أشكال الصراع هي التي تتغير ؛ ورغم أن هذا الصراع في احد صوره هو صراع فكري و فلسفي وعقائدي فما يلبث أن يتحول إلى صراع إرادات ومن ثم صراع وجود ! .
وغالباً ما كان صراعاً ردكالياً ثورياً وفي الكثير من الأحيان صراعاً دموياً عنيفاً قد ينتهي بسحق احد الطرفين للطرف الآخر وإبعاده عن ميدان الصراع
وتكون القوة المسلحة هي الحاسم في مثل هكذا صراعات ( وليس مقدار الحق الذي يمثله أي طرف من أطراف الصراع ) وسيكون وسيكون للجنرالات والقادة العسكرين كل الحضوة والهيبة والمكانة والمقام المبجل لأنهم سر بقاء السلطة وغلبتها وأهم أدواتها في قمع الآخرين وكتم أفواههم بغض النظر عن ما يمثلونه من قيم رفيعة ومكانة علمية أو حضارية وسرعان ما يتمكن الجنرالات بقوة ساحرة غامضة من سلب إنسانيتهم وتهجينهم وسيعترفون هم أنفسهم بمستوى الجهل الذي هم فيه والإجرام الذي مارسوه حينما إعتقدوا إن الحق الذي معهم والقيم والشهادات التي يحملونها عاصمة لهم من بطش الدكتاتور وعصى الجنرال وعليهم أن يدفعوا ثمن بلاهتهم وبرائتهم الساذجة ؛ أما إذا كان الطرفين متوازنين في القوة امتد الصراع فترة أطول وكانت تضحيات الطرفين اكبر والدماء اكبر والمأساة أكثر هولاً والخسائر التي يعطيها الطرفين من مستقبله ومن حاضره أعظم ؛ والتوازن إن لم يكن رادعاً للطرفين فهو معرقل للطرفين ومؤذيا لهما معاً إن لم يكن مدمرا لهما ؛ أما اذا كان الصراع غير متوازن فسيتمكن الأقوى بفعل قواه المادية من سحق الطرف الآخر بغض النظر عن موقفه من الحق والصواب الذي يمتلكه .
فكانت “السلمية الجماعية” هي سلاح الأضعف مادياً والأقدر على بيان حقه والدفاع عن مظلوميته ؛ فكانت السلمية السلاح المكافئ للعنف والذي يعوض عن عدم تكافوء القوى بين الطرفين واختيار السلام هو بديلا عن الاستسلام أو الموت . و”السلمية الجماعية” سلاح لم يتعود عليه الجنرال ولم يتوقعه الدكتاتور ليس لكون خصوم الدكتاتور عنيفين بل كانوا أشد سلمية وإستسلام وهم يساقون فرادا و زرافات للقاء حتوفهم ولكي يكتشفوا أنهم إرهابيون لا يستحقون الحياة ! ولكن المفاجاءة حين يعتصم الناس ببعضهم وهم يواجهون خطر الموت وهذا هو ما حصل قي ميادين الإعتصام من بولندة حتى بزوغ الربيع العربي بداء من تونس و مروراً بكل بلدان الربيع العربي وغير العربي . أجتمع الضحايا على صعيد واحد في ميدان واحد بغض النظر عن دينهم ومكونهم ومعتقدهم وثقافتهم وإنتمأتهم وأحزابهم ما جمعهم إلا كونهم ضحايا لكي يصرخوا بوجه السلطان لا كفى ظلماً بغض النظر عن مظلومية كل إنسان منهم !
ولكن بفعل ما حدث … وبفعل ما سبق من التداخل الحضاري وبفعل عولمة المعلومات وتطور الاتصالات وتأثير الإعلام وإنتقال الصورة والحضور الفوري للحدث الآني إلى أي مكان في الأرض بغض النظر عن بعد موقعه ؛ بل أصبح المشاهد يعيش الحدث و أجواءه وتفاصيله الدقيقة من مكانه . وتوسع تأثير العوامل المحيطية (الإقليمية) على حساب العوامل المحلية السلبية منها والايجابية. ونفس الشيء يقال عن العوامل والتأثيرات العالمية ؛ وكذلك بفعل تأثير الكثير من القوانين الأممية ومنها قوانين حقوق الإنسان وحرية الرأي وعولمة الصحافة والإعلام وبفعل التأثيرات الثقافية و الفكرية اللبرالية والديمقراطية على حساب تراجع الرديكالية وعزوف الرأي العام عن التعامل معها وتطور مفاهيم الصراع السياسي وتنوع أدواته وتعقيداتها .
كل تلك العوامل جعلت الصراع السياسي والصراعات الفكرية والثقافية والعقائدية تأخذ منحنا متطوراً جديداً مائلاً نحو أنماط سلمية متحضرة بغض النظر عن ما تمتلكه تلك القوى من قوة ردع لخصومها وأصبح المستقبل (العالم متمدن تجاوز هذه المرحلة) بكل تأكيد لمن يستطيع تطويع كل تلك الأدوات وإقناع الناس والرأي العام بكمية الحق الذي يمثله وتحولت السلمية من سلاح الضعيف إلى سلاح الأقوى حجة والأكثر تأثيراً وأصبحت الكامرة وصناعة الخبر والقنوات الفضائية وفنون التأثير الإعلامي هي الأخطر من قوة السلطة وعنجهيتها وأصبحت الأنظمة تتخبط وتكاد تغرق في بحور الإعلام ومؤثراته والواقع الافتراضي الذي يستطيع صناعته ولم تعد السلمية سلاح الضعفاء فقط بل لعلها سلاح الأقويا ولم يعد بمقدار أي قوة أن تمحي إرادة أي مجموعة فضلا عن سحق أمة بالقوة وإن كان لازال بمقدورها تشويه الحقائق
وتحولت القوة إلى سلاح الأضعف والأغبى أو سلاح اليائس المنتحر؛ ولن تحقق القوة إلا انجاز آني محدود الفعالية محدود التأثير سرعان ما يتحول هذا الانجاز الآني إلى وبال وجريمة لا يستطيع التخلص من أثارها بسهولة ولن تستطيع كل المنظفات من غسل يد الطغاة والجنرالات القتلة . وبداء الدكتاتور ” يفكر” وبداء بالظهور معه إلى جانب الجنرالات مفكرين وعلماء. وبداء زمن الجنرالات الجلادين بالأفول لزمن آخر ليس بالضرورة أن يكون مشرقاً ونتمنى أن يكون إقل دموية يمكن فيه للضحية أن تعيش وتبتسم وتقول للجنرال “أسمعني ولا تقتلني فأنا لست سوى كلمة”
وتلك هي من أهم المؤشرات على تغير فلسفة الحرب ونظريتها وتلك هي نهاية زمن أمراء الحرب وأفول نجماتهم وبدء إنحسار عصر القنابل الذرية والكوبالتية والعنقودية والجرثومية وقتل الإنسان إلى عصر مسخه وإحتواءه وتهجينه. ومات عصر الدبابات والصواريخ والطائرات وما تبقى من تلك الأسلحة ستكون من نصيب الطغاة المتخلفين والجنرالات المنتفعين في العالم المتخلف في معاركهم الأخيرة حتى يهرب الدكتاتور وينتحر الجنرال ويتساوى الناس أحراراً و تهزم صدور الناس العارية الطغاة ويبدء عصر البنفسج والياسمين وتتحول كل الفصول الى ربيع وستهزم الابتسامة عيون الجلاد الحاقدة وينتصر التحضر على الهمجية والتخلف ويكسر غصن الزيتون عصى الجلاد ويعيش الناس كل الناس بسعادة وأمان وكل ذلك مكتوب في الدساتير .
إليس السلام والآمان هو ما شرعه الله ؟
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
المائدة آية 16
نَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ البقرة 62