كان اختياركم مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء او لمجلسه خطوة نالتْ تثمين الكثير من المثقفين والاقتصاديين العراقيين وقد اعتبروها تعزيزا لتحويل بعض انماط الثقافة الاقتصادية من حالة الركود والتخلف المالي والاقتصادي خلال الاعوام العشرة الماضية، إلى حالة جديدة ،ربما تسجل انعطافاً أولياً نحو استخدام ثقافة الاستراتيجية الاقتصادية والتكنولوجيا المصاحبة لها.
موقفكم يا سيادة المستشار من ميزانية الدولة لعام 2015 وجدتُ خلاصته في تصريحاتكم الصحفية الى قناة السومرية نيوز حيث قلتم عن النفط والميزانية قولاً عادياً مجاملاً غير متحرر من العاطفة . اسمحوا لي أن اقول أن قولكم لم يكن واثقا ولا علاقة له بـ(ديمغرافيا النفط) ، حيث لم أجد فيه لوماً لنواقص الميزانية ولا حياداً، بل فيه نوعا من محاولة (إضفاء الصحيح على الخطأ) و(إضفاء الكمال على الناقص). استخدمتم حواس (الموظف الاستشاري) بدلاً من حواس (الخبير الاستشاري) حين رددتم ما يردده اصحاب الميزانية او واضعيها في وزارة المالية ومجلس الوزراء ولجنة البرلمان المالية. وصفتموها بأنها تحمل (استراتيجية جديدة) بتكنيك النفقات، بينما هي في حقيقتها لم تكن غير امتداد لموروث القيم المالية المستخدمة في تكوين الميزانية السنوية طيلة الانظمة السابقة فهي في عام 2015 لا تختلف عن خلاصية اي بقال في سوق الشورجة ، حيث يتفاعل هذا البقال بمستوى فطري بين مدخوله ومصروفاته. خلت الميزانية من فرص التغيير الاقتصادي المطلوب. ليس فيها لا (استراتيجية ولا تكتيك) لإحداث تغيير، بديل ومناسب، بل ركزت مضامينها على ما يعزز شيفرة العلاقة السنوية بين واردات الدولة ومصروفاتها.
اذكّركم أيها السيد المستشار ان ميزانية عام 2015 لم تحمل أي شكل من اشكال ثلاثية (المال/ التنمية/ المواطن) كما هو حال اعداد ميزانيات الدول الرأسمالية حيث عقلانية تجديد الوسائل المناسبة للحياة الاقتصادية – الاجتماعية ،المتوافقة سنويا.
اذكّركم يا سيادة المستشار ان مصداقية ترتيب الميزانية استراتيجياً لا يمكن رؤيتها إلاّ حين تعتمد ارقام ابوابها على الاستغلال الهرمي لثلاثيةٍ ما حصلتْ في العراق الا مرتين. الأولى عام 1950 حين حوّلت أجزاء من (آلية الميزانية) الى (مجلس الاعمار) الذي انفتح على تحويل جزء من عائدات النفط الى قطاع الصناعة والزراعة للتقارب مع بعض اتجاهات التنمية في اعقاب الحرب العالمية ونجاح خطة مارشال في اعادة اعمار أوربا الغربية.
المرة الثانية التي يمكن التحدث فيها عن استراتيجية جديدة كانت قد جرت في الفترة اللاحقة لثورة 14 تموز عام 1958 حين لعب الوزير المفكر ابراهيم كبة دوراً – بإسناد من الزعيم عبد الكريم قاسم – في تحويل ارقام ومضمون الميزانية من ( صفحات الورق) الى (ممارسة عمرانية) في اقتصاديات عدد غير قليل من المدن العراقية على ضوء استراتيجية جديدة قضت بتحويل بعض عائدات النفط الى استثمارها في بناء معامل للورق والاسمدة والبتروكيمياويات والطابوق والسمنت والنسيج وانشاء موانئ جديدة وتوسيع القديمة وبناء السدود واصلاح الاراضي الزراعية إضافة إلى بناء الدور للمواطنين من ذوي الدخل المحدود . كما وضعت بعض عائدات الميزانية لتحقيق ارتفاع في مستوى الخدمات الاجتماعية والمالية والتربوية والطبية للمواطنين.
كان المفترض ان يستمتع واضعو ميزانية 2015 بضرورة ان تكون الميزانية الجديدة غنية بإجراءاتها لتلافي اخطار انخفاض اسعار النفط العالمية كي يتم تلافي صدمات محتملة في الاقتصاد العراقي ،الذي استخدم في هذه الميزانية أرقاماً رمزية عن اسعار النفط وعائداتها ، التي وصفتموها أيها السيد المستشار بالمعقولية والاستراتيجية غافلا شرائح الذاكرة العراقية الجماعية التي سمحت بمختلف الازمنة والانظمة المتعاقبة على تبديد عائدات الثروة الوطنية على (كثير) من حالات الضياع وعلى (قليل) من البناء .
اتوقع منكم أيها السيد المستشار مظهر محمد صالح المعروف بحس وطني عالي المستوى وارادة علمية ليست صامتة ان تسبر غوراً أوسع في ابواب الميزانية وان تلعب دورا علميا مهما كان محدودا او متواضعا في التوجيه للانصراف عن بعض الأوهام التي صاحبت مناقشة الميزانية في البرلمان، مناقشة متعجلة غير كافية، لم تحوّلها الى مرجعية حقيقية في البناء والتعمير.
املي كبير بكم ، وثقتي عالية ان تكونوا مثالاً دقيقاً على التفاعل التام في مهمة (المستشار) حسب مكونات الواقع العراقي المحتمل بعقل ترابطي مع كل مصالح مجتمعنا المحتاج اقتصاده الى النضج والتطور، وأن تفكروا في إعادة التفسير الاقتصادي لأبواب الميزانية وأن تثيروا الانتباه ليس فقط الى رمزية ظروفها التاريخية ، بل الى تطبيقاتها الحرفية الضرورية للتخلص من الموروثات السلبية ،المترسخة داخل الاجهزة المالية في الدولة العراقية، القائمة على ثالوث (الفساد وهدر الوقت والتكاسل) . أملي أن تعملوا على تكييف جهودكم العلمية بصورة يستفاد منها في ميزانيات ما بعد هذا العام.
تقبلوا ثقتي بكم واحترامي وتقديري لشخصكم الجليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 5 – 2 – 2015