في إعتقادي أن اهم حرية من الحريات الأربع هي الحرية الفكرية !
فقد تُسلب حريتك السياسية و لكنك تبقى قادرا على أن تناجي نفسك بماتريد ، و تكسب مالك كيف تشاء ، و تتزوج بمن تحب !..
وقد تُصادَر حريتك الشخصية من عائلتك أو بأعراف مجتمعك ، و لكنك تظل حرا في وجهات نظرك ، و مجاهرا برأيك السياسي ، و لا يناقشك أحد في أموالك من أين جئت بها و كيف تنفقها !..
و ربما يضيق القانون على حريتك الاقتصادية و لكنه يترك لك حريتك الشخصية و السياسية و طبعا الفكرية !..
و لكن ما أن تُستلَب منك حرية التفكير ، و يصادر عقلك حتى تضيع منك باقي الحريات كلها تباعا ! …
فمن يستعبدك فكريا – و لنا في الحركات المتطرفة خير شاهد – يستطيع أن يفرض عليك من تنتخب ، و يمكن أن تعطيه أموالك عن طيب خاطر ، و ليس ببعيد عليه أن يحدد لك من تحب و من تكره و من تسلّم عليه و من لا تسلّم و تطيعه في ذلك دون مناقشة !
نعم ، فما أن يعتاد الإنسان على التقليد الاعمى و التعصب المقيت حتى يصبح فريسة لمن هب و دب ، و لن يعودغريبا أن ينقلب عاليها على سافلها بدون أن يقف أحد ليتسائل و يناقش …
أذكر قصة كانت تدرس في مدارسنا الابتدائية أيام زمان عن إمبراطور غبي كان مولعا بالثياب ، و كان ينفق نصف موارد حكومته – و لا أقصد التعريض هنا بقادتنا الأبطال و ساستنا ( الشرفاء) – على شراء الملابس الفاخرة الثمينة ، وكانت كل الرعية قد سمعت بهذا الهوس الإمبراطوري الغريب ..
و حدث ذات يوم أن جاء خياطان مخادعان وإحتالا على جلالة الإمبراطور – كما يُحتال اليوم على بعض قادتنا المحترمين و تسرق أموال العراقيين المساكين – فأقنعاه بأنهما قادران على أن يصنعا له ملابس عجيبة من نوع مبتكر ، ليس بمقدور أحد أن يراها إلا الأذكياء و العباقرة و لا يمكن أن يراها الحمقى و المغفلون ، و طلبا منه أن يَمُدَّهما بالمواد اللازمة من الحرير و الذهب و المجوهرات و الحلي فكان أن فتح لهما ميزانية الإمبراطورية ليأخذا منها بغير حساب ، و أوهماه بانهما باشرا بالعمل ، و في الحقيقة فإنهما لم يفعلا شيئا سوى أن وضعا الحلي والمجوهرات في جيوبهما و تظاهرا بأنهما يحيكان الملابس وبقيا على ذلك أياما طوال …
و لما زارهما الإمبراطور ليطلع على سير العمل ، دُهش إذ أنه لم يرَ شيئا على المغزل ، فقال في نفسه 🙁 هل يعقل أني أحمق و مغفل إذ لم أستطع رؤية الملابس ؟) و لكنه لم يظهر لهما شيئا ، و تظاهر بالإعجاب بعملهما و عاد إلى قصره يضرب أخماسا بأسداس…
و لأن القلق قد إستبد به ، فقد أرسل وزيره ليراقب سير العمل ، و كان أن صُدِم الوزير أيضا عندما لم يرَ شيئا ، و لكنه خشية الإتهام بأنه أحمق أبدى أيضا إعجابه بالعمل أمام الخياطين و أمام الإمبراطور !
و تكرر هذا مع كل شخص يرسله الإمبراطور ، إلى أن جاء اليوم المنشود الذي أعلن فيه الخياطان المحتالان إكتمال العمل ، و قدما للإمبراطور ملابسه الخيالية ، فما كان منه إلا أن خلع ملابسه و تظاهر بأنه يلبس الملابس الجديدة ، ثم ( خرج على قومه في زينته ) كي يفرحوا بملابس سيدهم السحرية الجديدة – التي ستغنيهم طبعا عن الدواء و الغذاء و التعيينات و الكهرباء – ، فكان أن شاهدت الرعية إمبراطورهم عاريا من الثياب تماما و لكن أحدا لم يجرؤ على أن يفصح عن ما في نفسه خشية الإتهام بالغباوة – أو ربما كي لا يتهم بأنه متواطئ مع الصفويين الأنجاس أو منشق على القيادة أو معاديا للشعائر ! – بل أن كثيرا منهم – و هذا أهم ما القصة – قد شكّ في نفسه و حواسّه و اتهمها بالقصور ، ولذا فقد بدأ الكل يهتف إعجابا بملابس الإمبراطور الجديدة و بأناقتها و تناسقها و جمالها ، وإستمر هذا النفاق و الوهم مسيطرا على عقول الناس .. وبقيت هذه الخديعة مسيطرة على عقل الإمبراطور عدة ساعات لم يُسمَع فيها إلا صيحات المديح و الثتاء …
و لكن طفلا صغيرا جاء بعدها ، و هتف ببراءة عندما شاهد صاحب الجلالة عاريا :
( و لكنه لا يرتدي ثيابا ! )…
فهمست أمه لجارتها بنفس قوله ، و همهم رجل قربهما : ( نعم إنه لا يرتدي ثيابا !! ) ..
و بدآ الواحد يقول للآخر أنه لا يرتدي ثيابا ، إلى أن هتف الجميع برمتهم : ( و لكنه لا يرتدي ثيابا !!!) …
نعم ، فهكذا يفعل الإستعباد الفكري بعقول الناس ، و هكذا يسيطر العقل الجمعي على تصرفاتهم ، فتكون النتيجة إستحمارا للمجتمع على حد تعبير المرحوم علي شريعتي ، و سيغدو التفكير بواقعية و موضوعية من ( رابع ) المستحيلات ، و إذا كان الإنسان يفكر بهذه الطريقة فستكون عينه ( عن كل عيب كليلة ) ، و ستعميه حجب التقديس الديني و السياسي و الاجتماعي عن رؤية أجلى الحقائق و أكثرها وضوحا ، فالمنحاز لإتجاه سياسي لن يتخلى عنه و لو أزكمت رائحة فساده الإداري الأنوف ، والمتعصب لرجل الدين لن يراه مخطئا و لو خالف القرآن فضلا عن الرسالة العملية ، و المحكوم بأعراف مجتمع تافهة لن يخرج عنها و لو تصادمت مع أوضح القيم الإنسانية – بل حتى و لو إقتضاه الثأر لعقاله أن يقتل عدة نفوس بريئة – …
كم لدينا من أمثال هذين المحتالين اليوم في العراق ممن لا يتحرج من إطلاق أفحش الكذب ما دام مطمئنا إلى وجود من يصدّق و يصفّق و يدافع و يتظاهر ليؤيد ؟
و كم مسؤولا لدينا من أمثال هذا الإمبراطور الذي يظن المواطن ملكا له يحكم عليه بما يشاء ما دام موقنا أن هذا المسكين بإمكانه السكوت والإنتظار في طوابير دوائر الدولة أو إزدحامات سيطرات التفتيش البائسة ؟
و كم واحدا عندنا ممن لا يخجل من التهديد بإشعال أكبر الفتن و التبرع بالإنتحاريين متعددي الجنسيات إذا ما أحسّ أن مصالحه في خطر؟
كم لدينا مثله ممن لا يتردد عن الجهر بأكثر الآراء تخبطا ما دام واثقا من أنها ستُقدَّس لدى المتملقين و الإنفعاليين و الجهلة فهو ( لا يُسئَل عمّا يفعل )؟
و كم لدينا من إمَّعات على شاكلة وزير الإمبراطور و رعيته لا يجرؤون على أن ينطقوا بكلمة عما يرونه حقا و يفضلون البقاء تابعين لثقافة ( حشر مع الناس عيد ) ؟
و المشكلة أننا اليوم لم نُبْلَ بإًمبراطور واحد بل بأباطرة كثيرين و على كافة الأصعدة…سياسية ودينية و عشائرية و غيرهن…
عندما يثبت المسؤول فشله بإمتياز ثم يُعاد إنتخابه ، و عندما تنقاد الجماهير بالإشارة ، و عندما يحتضن بعضنا القتلة و يدافع عن المجرمين و حقوقهم المزعومة دون خجل ولا حياء ، و عندما تستبدل الرعيةُ بكرامتها صكوكَ الغفران ، و يَؤٌمُّها من لا يُحْكِم من كتاب الله آيتين ، فلا نملك إلا أن نُهديَ لهم لافتات أحمد مطر ، و نردد قول نزار قباني في إعتذاره لأبي تمام :
( سأجمع كل أوراقي و أعتذرُ )…
و عندما تتناقض التصريحات و تتوالى المفخّخات و يموت فيها المئات و يتغير كل شئ و لا تتغير القناعات فهذا يدلّ على أننا شعب مريض و نحتاج الى رقود في العناية المركزة لميدان التحرير لعل (الكدعان) المصريين يعيدون إلينا بعض ما فقدناه من عقل و عزة و كرامة !…