إلى بغداد: كوردستان شريك في الدستور لا خصم في السياسة

إلى بغداد: كوردستان شريك في الدستور لا خصم في السياسة

حين يتحوّل الدستور من عقدٍ ضامنٍ لوحدة البلاد إلى أداة انتقائية تُفعَّل ضد طرف وتُعطّل لصالح آخر، يصبح السؤال الأخطر: هل نعيش في دولة مؤسسات أم في ظل إرادة سياسية تُعيد إنتاج التهميش بشكل مغاير؟
إقليم كوردستان، منذ 2005، لم يكن كيانًا ملحقًا بالدولة الاتحادية، بل شريكًا نص عليه الدستور، وأسهم بفعالية في صياغته. لكنه اليوم يُعامل كخصم. تُقطع رواتبه، تُجمد مستحقاته، وتُحاصَر مشاريعه، لا لخلل في التزامه، بل لنجاحه في تجاوز الأزمات التي غرقت فيها الدولة المركزية.
وفي الوقت الذي تُطفئ فيه بغداد أنوارها انتظارًا للغاز الإيراني، تمتد يد المركز لعرقلة مشروع كوردي يُمكن أن يحل نصف أزمة الطاقة في العراق. هنا لا يبدو الخلاف خلافًا على نسب أو أرقام، بل على موقع كردستان في معادلة العراق: هل هو شريك في القرار، أم تابع يُكافأ أو يُعاقب وفق مزاج اللحظة؟
في صيف لاهب تجاوزت فيه درجات الحرارة في بعض المحافظات العراقية نصف درجة الغليان، أعلنت وزارة الكهرباء في الأول من تموز 2025 عن فقدان نحو 3000 ميغاواط من القدرة التوليدية بسبب تراجع الإمداد الإيراني من الغاز، من 50 مليون متر مكعب إلى 20 مليون متر مكعب يوميًا. توقّف محطات التوليد، والانقطاعات الواسعة، أعادت مشهد الفشل المزمن إلى الواجهة، وسط سخط شعبي وشلل حكومي.
هذا الانكشاف الموسمي، الذي يتكرر كل صيف، يعكس هشاشة البنية الطاقوية في العراق، ويؤكد مدى الارتهان المقلق لمصادر خارجية، في وقت تمتلك البلاد موارد ضخمة لم تُستثمر بعد. وبينما تعجز الحكومة الاتحادية عن تنويع مصادرها أو الاستثمار في الغاز المصاحب، يتحرك إقليم كردستان في مسار مختلف، رغم كل ما يواجهه من حصار سياسي واقتصادي.
زيارة رئيس حكومة الإقليم، مسرور بارزاني، إلى واشنطن لم تكن مجرد نشاط دبلوماسي عابر، بل كانت خطوة استراتيجية هدفها تأمين شراكات طويلة الأمد في قطاع الطاقة. تمخضت الزيارة عن توقيع اتفاقيات مع شركات أميركية وأوروبية متخصصة، ما يُتوقّع أن يضيف أكثر من 10 تريليون قدم مكعب إلى احتياطيات الغاز في الإقليم، ليصل المجموع إلى أكثر من 35 تريليون قدم مكعب.
هذا التوسّع لا يعزز فقط أمن الطاقة للإقليم، بل يُمكن أن يشكّل قفزة نوعية في قدرة العراق على تصدير الغاز، وتحريره من قيود الابتزاز الإيراني. إلا أن بغداد اختارت بدلًا من ذلك أن تتعامل مع الإقليم باعتباره “مشروعًا مزعجًا”، يُعاقب بدل أن يُدعَم، ويُعيق بدل أن يُحتَضَن.
الإجراءات العقابية التي تواجهها كوردستان –من قطع الرواتب وتجميد الاستحقاقات المالية إلى عرقلة المشاريع التنموية– لم تعد مجرد خلاف على التفسيرات، بل أصبحت انتهاكًا صريحًا للدستور. فالمادة 1 من الدستور تُعرّف العراق كدولة اتحادية متعددة القوميات، والمادة 121 تضمن حق الأقاليم في إدارة شؤونها، والمادة 112 تنص على تقاسم الثروات، والمادة 115 تمنح الأولوية لقوانين الإقليم في حال تعارضها مع القانون الاتحادي في المجالات غير الحصرية.
إذن، هل الأمر مجرد “مشكلة رواتب” كما يُصوّر في بعض الخطابات؟ أم أننا أمام عملية منهجية لتعليق حقوق دستورية لشعب كامل؟ إن تسليط الضوء على الجانب المالي وحده هو تقزيم للمأساة. ما يُواجهه الإقليم هو محاولة لكسر إرادته السياسية وتعطيل قدرته على إدارة موارده، في الوقت الذي ينجح فيه بتنفيذ مشاريع نوعية على الأرض.
لقد أنجزت حكومة الإقليم خلال السنوات الماضية مئات المشاريع، مثل مشروع “روناكي” لتطوير الكهرباء، ومشروع “حسابي” للتحول الرقمي، وبناء عشرات السدود، وتوسيع شبكات المياه والصرف الصحي. هذه الإنجازات لا تُمثل فقط تحسينًا للخدمات، بل تشكّل نموذجًا لحكم فعّال وسط محيط يعاني من التآكل المؤسسي. وربما لهذا السبب تحديدًا أصبحت هذه التجربة مستهدفة: لأنها تُحرج المركز بفشل سياساته، وتُهدد بنيته البيروقراطية المتكلّسة.
بغداد لا تعاقب كوردستان لأنها خارجة عن القانون، بل لأنها التزمت به ونجحت في توظيفه لبناء نموذج إداري واقتصادي أكثر كفاءة. وكأن النجاح بحد ذاته أصبح تهمة في بلد تآلف مع الفشل.
إن الحرب الاقتصادية المفروضة على كوردستان لم تعد مجرّد وسيلة ضغط، بل تحوّلت إلى سياسة ثابتة، هدفها إبقاء الإقليم في دائرة التبعية، ومنعه من التحوّل إلى مركز قوة إقليمي أو وطني. هذه السياسة، في جوهرها، لا تضر كوردستان وحدها، بل تضر العراق ككل. لأنها تقوّض فكرة الاتحاد ذاته، وتُعيدنا إلى مركزية تسلطية حاول العراقيون تجاوزها بعد 2003.
إذا كانت بغداد تخشى من نموذج كوردستان، فإن الأجدى أن تُنافسه عبر تحسين أدائها، لا عبر خنقه. وإذا كانت تؤمن بالدستور، فعليها أن تطبّقه على الجميع، لا أن تتعامل معه كوثيقة انتقائية. فإقليم كردستان لا يطلب امتيازات، بل يطالب بحقه الكامل كشريك في الدولة.
الإصرار على معاقبة الإقليم، في وقت يختنق فيه البلد بأزماته، هو ضرب من الانتحار السياسي. وبينما تغرق بغداد في الظلام، تنتظر مشاريع كردستان أن يُرفع عنها القيد، لا أن تُعاقب على طموحها. فربما كان على بغداد ، بدل أن تعادي النموذج، أن تحتضنه.
كوردستان ليست خصمًا يا بغداد… بل فرصة مهدورة تنتظر من يراها كما هي: شريك في الخلاص.